كمٌّ مدهش من الحكايات، لم تنقطع حتى في يوم رحيله، تركها صاحب «تغريدة البجعة»، فالصباح الذي حمل، بلا مقدمات في مطلع هذا الأسبوع، نعي المبدع مكاوي سعيد، لم تغب فيه واحدة من «كنوزه» عن القراء، في المساحة المخصصة له في إحدى الجرائد المصرية. لم يهتم مكاوي سعيد، الذي رحل عن 62 عاماً، بأن يغرق المكتبة بأغلفة عليها اسمه، تحت فن الرواية أو القصة القصيرة أو حتى الشعر الذي استهل به المسيرة، ارتاح للسرد الحر الذي وجد فيه ذاته، من على مقعده في مقهى ما بوسط البلد، يتأمل بشراً من كل الأصناف: طيبين وحسني النوايا وحالمين لدرجة الجنون، مثقفين ومدّعين وحرافيش ومتحايلين على الحياة وأبرياء، وبشراً من كل الأطياف التقطتهم عين مكاوي الذي روى حكاياتهم، ورسم صورهم بعفوية آسرة. بعد أن وصلت روايته «تغريدة البجعة» إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورتها الأولى، لم يسعَ مكاوي سعيد إلى استثمار الحالة، وأصداء الشهرة التي حققتها الجائزة، لاسيما حينما كان ينافس عليها «الكبار»، فمنذ 2007 وحتى رحيله لم يكتب سوى رواية واحدة هي: «أن تحبك جيهان»، مكتفياً بتأمل «البشر»، وشخصيات من لحم ودم، تبدو من عوالم سحرية، تقع بين الواقع والخيال، جمعها في كتاب «مقتنيات وسط البلد.. وجوه وحكايات من وسط القاهرة». نأى بقلمه عما لا يحسّه، فجاءت قصصه على هواها، تشبه مبدعها وبساطته. سيرة.. وجوائز ولد مكاوي سعيد محمد فايد في العاصمة المصرية، القاهرة، في يوليو عام 1955. ومن مجموعاته القصصية: «الركض وراء الضوء» (1981)، و«حالة رومانسية» (1992)، و«راكبة المقعد الخلفي» (2001)، وروايات: «فئران السفينة»، و«تغريدة البجعة»، و«أن تحبك جيهان»، وكتاب «كراسة التحرير». كما كتب مكاوي سعيد السيناريو الوثائق والروائي، وحصل على أربع جوائز ذهبية من مهرجان الإذاعة والتلفزيون العربي، وجوائز أخرى من مهرجانات دولية. وكتب الراحل في أدب الأطفال، ونشر نتاجه في العديد من المجلات؛ من بينها ماجد، والعربي الصغير، وبلبل، وقطر الندى، وغيرها. حصل مكاوي سعيد على جوائز مصرية وعربية عدة، من أهمها جائزة سعاد الصباح للرواية عن «فئران السفينة»، وجائزة الدولة التشجيعية عام 2008، وجائزة أفضل مجموعة قصصية من اتحاد كتاب مصر عام 2009، وحظيت روايته «تغريدة البجعة» باهتمام كبير، لاسيما بعدما نافست على جائزة البوكر العربية. وترجمت أعمال عدة لمكاوي سعيد إلى عدد من اللغات من بينها الإنجليزية والفرنسية والألمانية. كما نالت مجموعته القصصية «البهجة تحزم حقائبها» جائزة ساويرس في القصة القصيرة للكبار عام 1915.471 صفحة، يقع فيها كتاب «مقتنيات وسط البلد» لمكاوي سعيد، والذي يعد مدخلاً إلى عالم الراحل وأسلوبه. كما برز مكاوي سعيد في القصة القصيرة، التي لم تختلف كثيراً عن «مقتنياته»، إذ حفلت فضاءاتها هي الأخرى بأبطال من وسط البلد، وصعاليك في الظل، لم تنسهم ذاكرة الراحل، واستفادت منهم بأكثر من شكل، فأعادت تدوير ملامحهم في أكثر من محل. كتب مكاوي سعيد بسلاسة، ونأى بقلمه عما لا يحسّه، فجاءت قصصه على هواها، تشبه مبدعها وانطلاقته وبساطته، وكذلك الأجواء التي عاش بينها، فبدت غالبية القصص منسابة، كأنها كتبت على مقهى متواضع، خالٍ من التجريد أو الديكور المفرط، لكنه حافل بالحياة وأنفاس البشر الحارة، وأحلامهم الصغيرة والكبيرة، وكذلك تحليقهم حيناً، وعجزهم عن ذلك حيناً آخر. من نبع «وسط البلد» يستقي مكاوي سعيد أبطال قصصه ورواياته، في أزمنة كان ذلك المكان مزدحماً بهم، يستوعب كل الألوان في أيام كانت فيها القاهرة مدينة للكل، ترحب بـ«الإنسان» وتجعله ابناً لها، حتى لو احتفظ بلكنة الجذور، لتصير قصص مكاوي سعيد بمثابة تأريخ غير رسمي لتلك الشخصيات، من هاجر منها إلى أمكنة أخرى، ومن قاوم وآثر البقاء في تلك المدينة. معايشة حقيقية لا تبرز فرادة مكاوي سعيد في «مقتنيات وسط البلد» بشكل خاص من رسم صور الحرافيش والمنسيين وأصحاب الأحلام المجهضة، أو من السياحة في تاريخ وسط البلد الثري، وتعريف القارئ به فحسب، بل من المعايشة الحقيقية ومعرفة المستور والعالم السري للمكان ومن عاشوا فيه، وحتى العابرين له ممن وقع عليهم قلم مكاوي سعيد، وروى فصولاً من حياتهم، كما سجل ملامح من كل سوق ومقهى ومطعم في وسط البلد، التي تعد شاهداً على أحداث بلا حصر، وتختزن تاريخاً حقيقياً: سياسة وثقافة ونضالاً وطنياً ومصارع عشاق وأصحاب هوى من كل الألوان. بشكل عفوي، عبر الكاتب الراحل عن الوجوه التي مرت به، أو مرّ هو بها، وكذلك دروب وسط البلد التي عاش فيها، وتماهى معها وعشقها، ولم يدع الافتتان بها، فسرى بصورة مختلفة في ما يكتبه، ووصل ذلك الشغف إلى القارئ، الذي قد يفتش عن وجه من تلك الوجوه التي رسمها مكاوي سعيد في وسط البلد، وربما يعثر عليها في حيز ما، أو من شبيه لها. نموذج عن أحد النماذج البشرية، يكتب الراحل مكاوي سعيد في «مقتنيات وسط البلد»: «لشكري مناخه الخاص المختلف عنا جميعاً.. فقد تجده هابطاً علينا داخل المقهى في عز الشتاء، ونحن نحتمي بدفء النصبة والأكواب الساخنة تحتضنها أيدينا، ممسكاً بجاكت البدلة في يده، فاتحاً أزرار قميصه إلى ما يقرب من سرته وعلى وجهه عرق غزير.. ويقف حائراً بين الجلوس بصحبتنا وسط الدفء اللذيذ الذي يزيده عرقاً.. أو الجلوس بالخارج حيث لا أحد، أسفل مظلة المقهى يتلقى قطرات المطر المنفلتة من المظلة باستمتاع.. وكان على الأغلب يفضل الجلوس بالخارج. عيناه وأذناه معنا بالداخل يشاركنا الحوارات.. وعندما نتجاهله يدخل إلينا ليدلي بدلوه في الحوار ثم يخرج سريعاً.. جاءنا لأول مرة منذ سنوات بعيدة بصحبة صديق ولم يغادرنا إلا قليلاً.. ليست له علاقة بالأدب ولا السينما ولا الموسيقى ولا الفن التشكيلي، لكنه ينصت بإمعان ويركز باهتمام لكل المناقشات الدائرة حول هذه الفنون.. له ميزة فريدة فهو يحفظ جميع الأفلام العربية القديمة التي تبث على الفضائيات بترتيب المشاهد وأسماء الأبطال وجنسياتهم ودياناتهم والكومبارس والمتكلمين والبكم والمخرجين وسنة الإنتاج.. له ذاكرة بصرية ممتازة ويفرح جداً إذا ما استعنا به في تذكر أحد هذه الأفلام.. كما يحب جداً أن نهديه كتبنا ودواويننا بعد أن نكتب له إهداء باسمه بالكامل، ويظل يراقبك وأنت تكتب حتى لا تخطئ في كتابة اسمه ويتناوله منك سعيداً ويخبرك بحماسة بأنه سيضعه في مكتبته». ويواصل مكاوي سعيد وصف (شكري)، ويتناول أحداثاً بسيطة، لكنه يفاجئ القارئ بغير العادي، لتصل الصورة إلى نقطة الدراما المثيرة، بل العجائبية أحياناً، رغم أن تيار الحكاية يبدأ هادئاً، ولا يبدو أن ثمة صخباً في حياة تلك النماذج التي تحفل بالكثير من الخفايا التي لا تعثر عليها سوى عين لاقطة، وحس أدبي يجيد تفحص البشر، ويقرأ ما في داخلهم بلا مبالغة أو أحكام قاسية تنسى الإنسان وضعفه، وتنظر إليه من زواية واحدة، متجاهلة كل ما سواها.محمد إسماعيلmismail@ey.ae
مشاركة :