إنه لمن المؤسف ما تمرّ به (العلاقات الخليجية الإيرانية) من توتر وعدم استقرار منذ نجاح الثورة الخمينية عام (1979م) وحتى اليوم، والتي بنتها إيران على مبادئ سياسية ذات طابع عقائدي مُستمد من مزيج مؤلَّف من تفسيرها المنفرد لمفاهيم الدين الإسلامي، والطابع الفارسي التاريخي الناتج عن تداعيات انهيار الإمبراطورية الفارسية وتهاويها سياسيًا ودينيًا على يد العرب في معركة القادسية عام (636م)، وتبنّي الدستور الإيراني لمبدأ (تصدير الثورة)، واعتماد (نظرية ولاية الفقيه)، والتي تُعتبر جميعها من الأسباب الرئيسة لانعدام الثقة وتدهور العلاقات الخليجية الإيرانية. فقد شهدت تلك العلاقات أحداثًا جسامًا، ومحاولات انقلابية وتدخلات إيرانية مستمرة في الشؤون الداخلية الخليجية، تؤكِّد على الصراع السياسي التاريخي القديم الذي كان ومازال وقوده اللعب على الوتر الطائفي والمذهبي، وسعي إيران بكل جهد لاستعادة المجد الفارسي الذى سجَّل التاريخ انهياره تحت أقدام سنابك الخيول العربية. وتحت شعارات (حماية حقوق الإنسان وحرية التعبير وادّعاء المظلومية) التقت المصالح الأمريكية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما بالأهداف الإيرانية التاريخية الخبيثة، ليتم التوقيع على الاتفاق النووي بين إيران ودول (5+1) في (يوليو 2015م) الذي أعطاها الضوء الأخضر لممارسة دورها التخريبي في المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين ودولة الكويت، وتحريك أذرعها لإشعال فتيل الأزمات ونيران الفتن الطائفية لتنفيذ مخططاتها وتحقيق أطماعها المستحيلة، وسبق كلّ ذلك الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث فور الانسحاب البريطاني من شرق السويس في (1971م)، ورفض المبادرات الحكيمة والواعية لحل القضية بشكل سلمي. ورغم حرص مملكة البحرين وشقيقاتها (السعودية والإمارات والكويت) المستمر على إقامة علاقات طبيعية مع إيران تقوم على أُسس حُسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، تظل إيران تعمل في الاتجاه المعاكس بالعمل على تأجيج الطائفية في دول المجلس، وفتح معسكرات تدريب على أراضيها لتدريب عناصر من المواطنين الخليجيين على أعمال العنف والإرهاب، وتمويلها لإسقاط الأنظمة الخليجية الحاكمة، والعمل على شقّ الصف الخليجي من خلال إقامة علاقات متميزة مع بعض دول المجلس دون غيرها، كدولة قطر، حيث استغلت إيران الأزمة القطرية المشتعلة منذ (يونيو 2017م) لتحقيق تلك الأهداف. إلا أن الحقيقة المؤلمة يترجمها الواقع على الأرض بالممارسات والتصريحات المغرورة والمستفزة لرجال الدين والمسؤولين الإيرانيين على مدى سنوات طويلة، والتدخل الإيراني في الشؤون الداخلية لدول مجلس التعاون الذي يتم بصور متعددة وبوجوه مختلفة تتلوَّن حسب الظروف والأحداث التي تمر بالمنطقة، وهنا تكمن خطورتها، فأخطر تلك التدخلات وأبرزها على الإطلاق، هو التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية البحرينية، والذي اتخذ أبعادًا خطيرة تجسَّدت في الآتي: • خلال الأزمة المؤسفة التي مرَّت بها البحرين في (فبراير 2011م) كان التدخل الإيراني واضحًا وسافرًا ووقحًا لتأزيم الأوضاع من خلال تقديم الدعم السياسي للاحتجاجات منذ يومها الأول, والتشويه الإعلامي المتعمَّد في القنوات الإعلامية الإيرانية والقنوات التابعة لها في العراق ولبنان، والإدلاء بالتصريحات اليومية الرسمية وغير الرسمية للمتحدثة الرسمية باسم الخارجية الإيرانية أو أعضاء مجلس النواب ورؤساء تحرير الصحف وغيرهم، والتي على إِثرها قمتُ -بحكم عملي السابق كوكيل للشؤون الإقليمية ومجلس التعاون بوزارة الخارجية- باستدعاء القائم بأعمال سفارة الجمهورية الإيرانية في المملكة مرات عديدة بسبب استمرار التصرفات الإيرانية العدائية ضد البحرين، وإثارتها للقلاقل، وتمادي وتسابق القنوات الفضائية المحسوبة عليها للإدلاء بالأكاذيب وبث التقارير الخبيثة والمغلوطة عمَّا يجري في البحرين، والاستمرار في انتهاك مبادئ ومواثيق الأمم المتحدة في العلاقات بين الدول واحترام سيادتها. • قيام إيران بالبحث عن الدعم الإقليمي والدولي والجماهيري ضد مملكة البحرين بتأجيج الطائفية وتحريك عملائها وأتباعها في العراق من رؤساء الأحزاب أو النواب الموالين لها، كأحمد الجلبي ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وتصوير دخول قوات درع الجزيرة إلى البحرين بأنه احتلال سعودي، وشبَّهته باحتلال صدام حسين للكويت، وشنَّت حملة إعلامية ودبلوماسية دولية تصوّره كاحتلال هدفه ضرب الشعب البحريني وإخماد ثورته ومطالبه السلمية للوصول إلى الديمقراطية والتعددية وحرية التعبير والرأي. • تقديم إيران العديد من المذكرات والشكاوى إلى المنظمات الإقليمية والدولية والزَّج بموضوع البحرين في المؤتمرات والاجتماعات الإقليمية والدولية والمفاوضات النووية مع مجموعة (5+1). • تشكيل إيران لجاناً شعبية ودولية في العراق والدول الأوروبية -وخاصة الإسكندنافية من جاليات مهاجرة من إيران والعراق ولبنان وسوريا- للتظاهر أمام البرلمانات الأوروبية والسفارات الخليجية في تلك العواصم وتنظيم الورش والندوات وإقامة معسكرات التدريب لنصرة مطالب الشعب البحريني، وحرَّكت (حزب الله اللبناني) ليأخذ دوراً محورياً سواء في دعم تلك الجماعات في الدول الأوروبية او في تصعيد الموقف الداخلي في البحرين والسعودية بالخطب النارية لأمينه العام حسن نصر الله. إن المستجدات التي طرأت على العلاقات (الأمريكية الإيرانية) مؤخراً بإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في (8 مايو 2018م) انسحاب بلاده رسمياً من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية المشدَّدة على إيران ومنع تصديرها للنفط وفرض عقوبات على الشركات النفطية المتعاملة معها، تُعَدّ فرصة ذهبية لتحقيق الأمن والاستقرار لمنطقة الخليج العربي بتطويق الخطر الإيراني لحماية المنطقة من نواياه التوسعية وذلك عن طريق الآتي: أولاً: دعم المعارضة الإيرانية في الخارج، وتقديم كافة سبل المساندة إليها لإسقاط النظام الحالي والقضاء عليه، خصوصاً مع وجود زعيمة المعارضة (مريم رجوي) الرئيسة المنتخبة من قِبل المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية في المنفى، وهذا من الممكن أن يتمّ على يد المقاومة الإيرانية والضغط الأمريكي والتنسيق مع أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وهو الأمر الذي ستكون له انعكاسات إيجابية جداً على استقرار الوضع السياسي والأمني والعسكري في سوريا ولبنان واليمن والعراق. ثانياً: دعم المقاومة الإيرانية الداخلية، واستغلال تردّي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة إلى معدلات قياسية والتضخم الذي وصل إلى (60%) والانهيار المتوقع للعملة وغلاء المعيشة وما يمكن أن تسببه تلك الأوضاع من أحداث عنف داخلية قد تعصف بالنظام الإيراني الإرهابي، وتفادي ما قد يقوم به الحرس الثوري الإيراني من تصرفات عسكرية جنونية نتيجة لذلك. ثالثاً: تطوير القدرات والإمكانيات المرتبطة بجمع وتبادل وتحليل المعلومات الاستخباراتية المتعلِّقة بالأنشطة الإيرانية داخل إيران وخارجها (العراق ولبنان واليمن وسوريا ومصر والسودان)، لشلّ حركتها في الأوساط السياسية والشعبية لإسقاط المشروع الإيراني في المنطقة. رابعاً: إعداد استراتيجية خليجية موحَّدة ضد إيران وضد المخاطر والتهديدات الإيرانية المؤثرة على استقرار دول الخليج وسيادتها، بحيث تكون هذه الاستراتيجية شاملة وجدّية وقابلة للتنفيذ بقناعة وشفافية من قِبل جميع دول مجلس التعاون عبر الاتفاق على الحد الأدنى لها، لإزالة الشكوك إزاء العلاقات الثنائية بين إيران وبعض دول الخليج، خصوصاً في ظل تداعيات الأزمة القطرية التي كشفت ضعف الموقف الخليجي تجاه إيران، مع الأخذ بعين الاعتبار المحاولات الإيرانية المتوقعة لزعزعة الثقة بين دول المجلس. ولذلك كلّه، وفي ظل الظروف الاستثنائية التي تعيشها المنطقة والعالم، والتحديات الحالية للسياسة الأمريكية؛ فإن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق (دولة قطر) التي تعيش في مأزق حقيقي بسبب تنامي علاقتها مع إيران منذ تفجّر الأزمة في (يونيو 2017م) وارتمائها في الأحضان الإيرانية وفتح الأراضي القطرية لتواجد عناصر من الحرس الثوري الإرهابي. فعلى قطر مسؤولية عظيمة في المرحلة الحالية، عبر تغيير سياستها والعمل بشكل جاد على إنهاء الأزمة في إطار المطالب (13) للدول المقاطِعة، والتي تصب جميعها في صالح أمن واستقرار المنطقة عموماً، حيث إن تماديها في سياستها الحالية وعدم التزامها بتنفيذ المطالب المُتفق عليها مسبقاً سوف يزيد من انفصالها عن منظومة (مجلس التعاون) الذي تُشير كل القراءات إلى أنه قد يمضي دونها خلال الفترة القادمة. المحلل السياسي للشؤون الإقليمية ومجلس التعاون
مشاركة :