نشرت وكالة فرانس برس، وهي من وكالات الأخبار الرائدة والمعروفة بمصداقيتها عالميا، مؤخرا مجموعة من التحقيقات والدراسات تسلّط الضوء على التضليل الإعلامي وظاهرة الأخبار الزائفة التي تطوّرت بتطور وسائل الاتصال والتواصل والثورة الحاصلة في مجال الإعلام الاجتماعي. وتأتي تقارير الوكالة الفرنسية ضمن حملة تشنّها وسائل الإعلام التقليدية التي باتت تعطي الأولوية لترسيخ مصداقيتها من خلال دور ريادي في حملة التصدي للتضليل الإعلامي. لندن - تبادل رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، سنة 2015، صورة لفستان أثار جدلا محيّرا حول لونه هل هو أبيض وذهبي؟ أم أسود وأزرق؟ ودارت هذه الصورة في مختلف أنحاء العالم، بلغاته وثقافاته المختلفة ومسافاته البعيدة. وانقسم الملايين عبر مواقع التواصل الاجتماعي حول لون الفستان. فبينما يبدو أسود وأزرق للبعض، قال فريق آخر إنه يظهر لهم باللونين الأبيض والذهبي. وتدخل العلماء لإنهاء الجدل، وأثبتوا بعد دراسة دقيقة، أن اللونين الحقيقيين لهذا الفستان هما الأزرق والأسود، لكنهم أثبتوا أيضا التأثير الكبير الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي على مستوى نقل المعلومة وتأثيرها على المتلقّين، وفق الجهة التي أرسلت أو بثت المعلومة. ما حدث مع صورة الفستان تكررت مع صور وأحداث أخرى كثيرة تكشف إلى أي مدى ساهم ظهور وسائل التواصل الاجتماعي في تغيّر العالم كثيرا، وكيف أصبحت سياسات الدول وقواعد المجتمع وسلوكيات البشر رهن المزاج الذي يقرره هذا الإعلام الاجتماعي. ويعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أحد أبرز النماذج التي تعكس الصراع بين الإعلام التقليدي، ممثلا في الصحف والقنوات التلفزيونية والإذاعات والوكالات الرسمية، والإعلام الحديث، ممثلا في فيسبوك وتويتر وإنستغرام وواتساب وتلغرام ويوتيوب وغوغل، وغير ذلك من المنصات ومواقع التواصل عبر شبكة الإنترنت. تطور وسائل التواصل في الماضي، كان الاتصال بين البشر في مرحلة ما قبل اختراع الكتابة شفهيّا، أو عبر الرسومات والنقوش على الأحجار. بعد ذلك اخترع الصينيون أوّل مطبعة خشبيّة، واستعمل المصريون القدامى ورق البردي. وظل الحمام الزاجل أحدث وسائل التواصل في التاريخ القديم إلى أن اخترع التلغراف في أواخر القرن الثامن عشر. ومع الثورة الصناعية بدأت تتطور وسائل الاتصال والتواصل شيئا فشيئا، فظهر الهاتف والراديو ثم التلفزيون والأقمار الصناعيّة وانتشرت قراءة الصحف التي كانت إلى وقت قريب مصدر المعلومة الرئيسي والموثوق به، إلى أن جاءت الثورة الرقمية الكبرى وقلبت المعادلات ولم يعد التاريخ يكتب من طرف المنتصرين فقط. مع تطور وسائل التواصل، وظهور ثقافة الرأي والرأي المضاد، ما يكتبه “المنتصرون” يردّ عليه آخرون بالدليل المقابل الذي يؤكد صحة المعلومة المكتوبة أو المروّجة من عدمها. وإلى سنوات قليلة ماضية، الكثير من فضائح الرؤساء والمسؤولين وكبرى قضايا الفساد وأسرار الحروب كانت تحتاج إلى مدة لتكتشف إما بالصدفة وإما لرفع السرية عنها، أما اليوم فقدت ألغت الثورة في عالم الاتصال والتواصل هذه القواعد وقصّرت المسافات الزمنية بين الفضيحة وتاريخ الإعلان عنها. لكن، وكأيّ تطور تكنولوجي حملت معها الثورة في عالم التواصل والاتصال جوانب سلبية تتعلق أساسا بالتداخل الحاصل بين المعلومة والإشاعة، ضمن حرب يبدو فيها التقدم حاصلا لفائدة الخبر الكاذب على حساب المعلومة الدقيقة. وكانت عبارة أخبار كاذبة تشير في الأساس إلى “خبر غير صحيح تم نشره مع العلم المسبق عبر وسائل الإعلام”، بحسب الخبير الفرنسي في الشائعات باسكال فرواسار من جامعة باريس. ويعود الاستخدام المكثف للعبارة إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر 2016، لكن قبل انتخاب ترامب ونشوء مواقع التواصل الاجتماعي، كان التضليل الإعلامي موجودا تحت تسميات مثل نوادر أو شائعات أو تضليل. واستعمل سياسيون وحكومات الأخبار المضللة من أجل تحقيق سياسات وتمرير أجندات محددة مثل الضغط الإعلامي الذي مارسته الولايات المتحدة وبريطانيا عشية غزو العراق، أيضا نموذج الربيع العربي يكشف إلى أي مدى أثّرت وسائل التواصل الاجتماعي في الانتفاضات التي هزت المنطقة العربية والعالم. ويذكر المؤرخ الأميركي روبرت دارنتون من جامعة هارفارد مثالا قديما جدا يعود إلى العصر البيزنطي، حيث يشير إلى أن “نوادر” المعلق البيزنطي في القرن السادس بروكوبيوس كانت باكورة التضليل الإعلامي، فهذه المدونات السرية مليئة بـ”معلومات مشكوك فيها” حول فضائح وفسق كواليس هذا الحكم. الأخبار الكاذبة من الحمام الزاجل إلى تغريدات تويتر: تغير الشكل والغاية نفسهاالأخبار الكاذبة من الحمام الزاجل إلى تغريدات تويتر: تغير الشكل والغاية نفسها وانتشرت في القرن الـ18 منشورات تتضمن نصوصا قصيرة فيها تشهير أو سخرية أو كانت مثيرة للجدل وتخلط عمدا بين الصحيح والكاذب. ويقول المؤرخ الأميركي روبرت زاريتسكي من جامعة هيوستن إنه يمكن اعتبارها “أسلوبا قديما للتضليل الإعلامي” وفي تلك المرحلة، كانت الشائعات أوراقا شعبية يبيعها مناد في فرنسا وتتناول بانتظام أحداثا متفرقة من وحي الخيال. ويقول الباحث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية فرنسوا برنار إيغ إن التضليل الإعلامي الذي نشأ خلال الحرب الباردة كان يعني “حملة متعمّدة من المعلومات غير الصحيحة للتأثير على الرأي وإضعاف الخصم”، وخصوصا المعسكر الغربي. المثال الأبرز كان خطة أعدتها استخبارات الاتحاد السوفييتي وبدأت في عام 1983 عبر نشر مقال في صحيفة هندية للقول إن فيروس الإيدز سلاح بيولوجي تم ابتكاره في مختبرات عسكرية أميركية. وفي مثال آخر، على المعلومة المسيّسة والمضللة، نكسة 1967. وقد أعادت وفاة، المذيع المصري أحمد سعيد، الذي يعرف باسم “مذيع النكسة”، تسليط الضوء على خطورة الإعلام المضلل بشقيه التقليدي والمعاصر. اشتهر سعيد في العالم العربي بإذاعة بيانات نكسة يونيو 1967 بشأن انتصارات القوات المصرية في الحرب مع إسرائيل والتي تبيّن لاحقا عدم صحتها، وانتهت الحرب باحتلال ما تبقى من فلسطين، وشبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان السورية. وعلى إثر النكسة، قدم سعيد استقالته من الإذاعة، لكنه أكد قبل وفاته أن ما كان يذيعه بيانات تأتي إليه من مصادر رسمية ويلتزم بما فيها. وتزامنت وفاة سعيد مع ذكرى نكسة يونيو ولا يزال معاصروه يتذكرون تلاوته أنباء إسقاط العشرات من الطائرات الإسرائيلية وتدمير المئات من القطع والدبابات الإسرائيلية في الوقت الذي كانت فيه نتائج الحرب تقول إن هزيمة مدوية تعرضت لها القوات المصرية والسورية على يد الجيش الإسرائيلي. اليوم، لا يختلف الوضع كثيرا من حيث المضمون وإن اختلف من حيث الشكل، حيث يتم اختراق المجتمعات الواعية بأخبار مكثفة وتوجيهات مباشرة تتلاءم مع المزاج العام، كما حدث في حملة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. خطر الأخبار الكاذبة أظهرت العديد من الدراسات أن الأخبار الملفقة، والتي غالبا ما تكون أكثر إثارة من المعلومات الحقيقية، تنتشر بسرعة أكبر على الإنترنت نظرا لإتاحة الانتشار السريع والواسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وتنقل وكالة فرانس برس عن الباحثين في جامعة أوكسفورد سامانثا برادشو وفيلب هوارد أن “السرعة والحجم اللذين ينتشر فيهما المحتوى على نطاق واسع يتزايدان بسرعة كبيرة بغض النظر عما إذا كانت المعلومات التي يحتوي عليها صحيحة أم لا”. وفي مواجهة التضليل الإعلامي، تعزز المنظمات الإعلامية الكبرى التي تقيم في الكثير من الأحيان شراكة مع شركات التكنولوجيا الكبرى وشبكات التواصل الاجتماعي من عمليات التدقيق وتقصي الحقائق وغيرها من الخطوات لدعم الصحافة القائمة على الحقائق. لكن هذه الجهود تبقى قاصرة أمام موجة الإعلام الاجتماعي والاستغلال الكبير له من قبل الحكومات ومختلف الجهات. وحذّر الخبراء من أن العديد من مستخدمي الإنترنت ليسوا بارعين في التمييز بين الأخبار الملفقة والصحيحة، وهذا يشكل خطرا على المتلقين الذين تختلف درجات وعيهم، وأبرز مثال يطرحه الخبراء في هذا السياق عمليات الاستقطاب التي تقوم بها الجماعات المتشددة. قوانين جديدة لمحاربة التضليل الإعلامي في بعض الدول باريس – تبنّت بعض البلدان أو تستعد لإقرار تشريعات لمحاربة نشر أخبار كاذبة وملفقة عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو محاولات التضليل في فترات الانتخابات. وتتعرض هذه القوانين لانتقادات شديدة باسم الدفاع عن حرية التعبير. ألمانيا: تبنى النواب الألمان في يونيو 2017 قانونا يمنع نشر عبارات تنمّ عن الكراهية عبر شبكات التواصل الاجتماعي وكذلك الأخبار الملفقة والدعاية الإرهابية والترويج للاستغلال الجنسي للأطفال. ويعرض القانون شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك لغرامة تصل حتى 50 مليون يورو ولغرامات فردية يمكن أن تفرض على مدرائها وتصل إلى خمسة ملايين يورو إذا لم يمتثلوا لطلب سحب مثل هذا المحتوى. ويقول معارضو القانون، من اليسار واليمين، إنه ينتقص من حرية التعبير وإنه سيؤدي إلى التضييق على حرية التعبير ويمنح عمالقة الإنترنت دور الرقيب. فرنسا: هناك مقترحان مثيران للجدل ضد “التضليل الإعلامي” في فترات الانتخابات تجري مناقشتهما حاليا في البرلمان ويهدفان إلى السماح لمرشح أو حزب باللجوء إلى القضاء لوقف نشر “معلومات كاذبة” خلال الأشهر الثلاثة السابقة على الانتخابات الوطنية. ويسعى النص الذي كان إيمانويل ماكرون على وجه الخصوص وراءه إلى التصدي “لمحاولات زعزعة الاستقرار، خاصة من الخارج” من خلال “الانتشار واسع النطاق للمعلومات الخاطئة”. واحتج نواب المعارضة وأبرز نقابات الصحافيين على المشروع الذي يعتبرونه غير ضروري أو خطيرا على حرية التعبير. وتعرضت محاولات تعريف “الأنباء الكاذبة” أيضا للانتقادات. البرازيل: لا يوجد في البرازيل تشريع محدد يتناول الأخبار الملفقة، ولكن يُنظر الآن في ما لا يقل عن 14 مشروعا حول الموضوع أحدها في مجلس الشيوخ والباقي في مجلس النواب. وينص مشروع القانون المعروض على مجلس الشيوخ على عقوبات تصل إلى السجن ثلاث سنوات لمن يدان بنشر معلومات كاذبة على الإنترنت “تتعلق بالصحة والأمن والاقتصاد الوطني والعملية الانتخابية أو أي موضوع آخر يمس المصلحة العامة”. وفي حين من المقرر تنظيم الانتخابات الرئاسية في أكتوبر، وقعت عشرة من 35 حزبا سياسيا برازيليا في يونيو مع المحكمة الانتخابية العليا، وهي الهيئة العليا المنظمة للانتخابات، اتفاقا لمحاربة “نشر المعلومات الكاذبة”. ماليزيا: أقر البرلمان الماليزي في أبريل 2018 قانونا يتصدى للأخبار الملفقة يعاقب على نشر معلومات “كاذبة جزئيا أو كليا” بالسجن مدة تصل إلى ست سنوات وبغرامة قدرها 130 ألف دولار. فازت المعارضة التي انتقدت هذا الإجراء في ذلك الوقت باعتباره وسيلة جديدة للرقابة السياسية، في انتخابات مايو. وأثار رئيس الوزراء الجديد مهاتير محمد، المنبثق من صفوف المعارضة، مخاوف عندما قال إنه ينوي الإبقاء على القانون قبل أن يتراجع عن ذلك ويقول إنه سيعمل على إلغائه. كينيا: ينص قانون أصدره الرئيس الكيني أوهورو كينياتا في مايو ويستهدف الجريمة الإلكترونية على محاربة نشر الأخبار الملفقة. ويتضمن القانون مادة تنص على غرامة قدرها 50 ألف دولار (42 ألف يورو) و/أو السجن سنتين لنشر “بيانات كاذبة أو مضللة أو وهمية”. وذكرت جمعية المادة 19 المدافعة عن حرية الصحافة ومقرها لندن، أن المحكمة العليا في كينيا علقت العديد من أحكام القانون في نهاية مايو بانتظار البت في دعوى تقدمت بها رابطة المدونين في كينيا. ويتحدث المدافعون عن حرية التعبير عن ازدياد العداء للصحافيين في كينيا منذ الحملة الانتخابية الأخيرة وإعادة انتخاب كينياتا في أكتوبر 2017.
مشاركة :