يتجه صندوق النقد الدولي نهاية الشهر الجاري إلى اعتماد صيغة دعم جديدة للاقتصاد المغربي للسنوات المقبلة، ضمن برامج الخطوط الائتمانية الوقائية، التي دأب المغرب على تحصيلها مرة كل سنتين منذ العام 2011، لتغطية أخطار الأسواق المالية العالمية وصدمات ارتفاع أسعار النفط وخلل الميزان التجاري وتحفيز النمو. وتندرج الخطة ضمن منظومة النموذج التنموي الجديد الذي شرع المغرب في إعداده للسنوات المقبلة في مجالات العمل والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، بدلاً من النموذج السابق المسؤول عن تواضع النمو وتزايد الفوارق والخلل الاجتماعي. وقالت مصادر في صندوق النقد لـ «الحياة» إن المغرب سيكون البلد الأول الذي ينفرد بهذا النوع من الدعم الوقائي لاستكمال الإصلاحات المنتظرة وتعميمها على دول أخرى مجاورة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وهي مصر تونس الأردن. وكانت الرباط ومقدونيا الوحيدتين اللتين استفادتا من 3 خطط دعم «السيولة الوقائية» منذ العام 2012 بلغت قيمتها نحو 14.5 بليون دولار، وكان آخرها بقيمة 3.4 بليون دولار تنتهي في 23 الجاري. وكشفت مصادر وزارة المال والاقتصاد لـ «الحياة» أن المغرب لم يستخدم موارد تلك الأرصدة وسدد كلفة وضعها تحت الإشارة، واستعان بغطائها للاستدانة من السوق المالية الدولية بشروط ميسرة وأسعار فائدة تفضيلية. وقال مدير العمليات في صندوق النقد الدولي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا نيقولا بلانشير لـ «الحياة» إن «المغرب من بين الرهانات التي تحرص المؤسسات المالية الدولية على إنجاح الإصلاحات فيها لتكون نموذجاً إقليمياً، وهناك مرحلة ثانية من حزمة الإصلاحات على الحكومة التعامل معها بشجاعة لرفع النمو الاندماجي وتعميم فوائده على المواطنين، وزيادة الاندماج في الاقتصاد العالمي وجذب استثمارات أجنبية. وتزامن الدعم التقني لصندوق النقد مع دعم آخر للبنك الدولي تحت اسم «خطة الدعم الإستراتيجية» قيمتها 4 بلايين دولار موجهة لخلق فرص العمل للشباب عبر مشاريع ذاتية، وتحويل الاقتصاد المغربي إلى الرقمنة التكنولوجية والتخلي عن الوثائق الورقية لإنشاء المشاريع والتراخيص والضرائب والمراسلات وتوسيع استعمال الذكاء الاصطناعي لتحسين مناخ الأعمال الذي ترغب الرباط في أن تكون ضمن الدول الـ50 الأولى مع نهاية العقد الحالي، من المرتبة 62 حالياً. واعتبر صندوق النقد في تقرير المراجعة الفصلية عن الاقتصاد المغربي أن تحسن الحسابات الماكرو اقتصادية لم يعالج مشاكل اجتماعية صعبة ولم يحدّ من بطالة الشباب التي تطاول فئات واسعة من المتعلمين وحملة الشهادات العليا، إذ استمر ارتفاع معدل البطالة في 2016-2017 وتجاوز 10 في المئة في المتوسط وتراوح بين 18 و27 في المئة لدى الشباب والنساء، كما أن النمو ليس إدماجياً ويترك فئات عديدة خارج التطور المسجل في الاقتصاد، على رغم تراجع معدلات الفقر من 15 في المئة عام 2001 إلى 4.8 في المئة عام 2014، وفق البنك الدولي. ويثق صندوق النقد بسلامة السياسة الاقتصادية الكلية ويعتقد أن المغرب تجاوز المراحل الخطرة التي ارتبطت بتداعيات ثورات «الربيع العربي»، كما أن الإصلاحات ساعدت في تعزيز صلابة الاقتصاد وتطوير آليات المال العام لزيادة تنويع مصادر الدخل، خصوصاً الخارجية منها، عبر زيادة الصادرات ذات فائض القيمة المرتفع. وتمكن المغرب من تطوير صناعة السيارات والطائرات خلال أقل من عقدين، وتمثل تلك الصادرات اليوم نحو 30 بليون دولار وتغطي نصف قيمة الواردات. إصلاحات واحتجاجات وكان صندوق النقد اقترح عام 2012 حزمة من الإصلاحات في مقابل الدعم الوقائي والسيولة بلغ عددها 17 إجراءاً مالياً واقتصادياً واجتماعياً؟ وتراجعت نفقات دعم السلع الاستهلاكية من 52 بليون درهم (5.5 بليون دولار) إلى 15 بليوناً بين عامي 2012 و2018، وحررت الحكومة قطاع المحروقات ووقود البترول بالكامل وأخضعته لتقلبات أسعار السوق الدولية، وارتفع سعر ليتر البنزين نحو 30 في المئة في السنوات الماضي، وأصبح المغرب أغلى بلد عربي في أسعار الوقود والضرائب على الدخل. وتحمّلت الطبقات الوسطى صعوبات مالية كبيرة تجاوزت قيمتها 200 بليون درهم بسبب تحرير الأسعار، ما انعكس بدوره على الطلب الداخلي للاستهلاك الذي تراجع إلى 3.5 في المئة خلال العام الحالي، ويُتوقع أن ينخفض إلى 2.9 في المئة العام المقبل، بعدما كان يفوق 8 في المئة قبل 10 سنوات. وتبرر الحكومة ارتفاع الأسعار بأنها لم تتخذ تدابير كافية لحماية المستهلكين ولم تكن تتوقع عودة سريعة لارتفاع أسعار النفط. وتتباين حصيلة عمل صندوق النقد بالنسبة للفقراء في المغرب، فمن جهة ترى الحكومات المتعاقبة أن العمل بتلك النصائح ساهم في خفض العجز المالي في الموازنة من 7.5 إلى 3.5 في المئة خلال 4 سنوات، وساعد في خفض عجز ميزان المدفوعات الخارجية من 10 المئة عام عام 2011 إلى 4 في المئة عام 2017. وفي المقابل، يعتبر البعض أن تلك الإصلاحات هوت بالطبقات الوسطى إلى الحضيض وعمّقت تعاسة الطبقات الفقيرة وزادت أرباح الشركات الكبرى والعابرة للقارات التي أخرجت من البلاد بلايين الدولارات وأضرت باحتياط النقد ورفعت الأسعار ووسّعت الفوارق الاجتماعية بين الأفراد والمناطق، وحالة الغضب والحراك الاجتماعي والشعبي في عدد من المناطق يطالب شبابها بالعمل والكرامة وتحسين الأوضاع المعيشية. وأكد مناهضون لتوصيات صندوق النقد أن المقاطعة الشعبية لبعض الشركات والعلامات التجارية هي أيضاً تعبير عن السخط تجاه نصائح الصندوق غير الاجتماعية. وتتخوف الحكومة من اتساع رقعة الاحتجاجات في الأسابيع والشهور المقبلة في حال إقرار إجراءات جديدة تصفها بـ «الإصلاحات الضرورية» وتبشر بها في مشروع موازنة 2019. وسيكون موضوع ليونة سوق العمل أخطر النصائح التي يلوح بها صندوق النقد ويدفع الحكومة نحو إقرارها لتبسيط إجراءات طرد وتسريح العاملين وتقليص تعويضاتهم الاجتماعية عن سنوات العمل من أجل مرونة أكبر في التوظيف بالعقد وفق الحاجة وحرية الاختيار والتعويض من دون العودة إلى القوانين المرعية المعمول بها منذ عقود طويلة. وتعتبر النقابات العمالية تلك الإصلاحات «خطاً أحمر» لا يمكن تمريرها في البرلمان كما حدث مع صندوق التقاعد والمحروقات.
مشاركة :