لا تنحصر هموم أبناء الشعب العراقي في مواجهة المخاطر الأمنية وتصاعد الأعمال الإرهابية التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق في شهر مارس من عام 2003 والذي أسفر عن الإطاحة بالنظام الشمولي للرئيس الراحل صدام حسين وإحلال نظام المحاصصة الطائفية مكانه، نقول: لا تنحصر الهموم في هذه الأوضاع، إنما هناك تحديات لا تقل خطورة عن تحديات الإرهاب، وهي انتشار الفساد وهدر الثروة الوطنية عبر دهاليز متشعبة تسببت في تبخر العائدات النفطية العراقية الضخمة، الأمر الذي انعكس بصورة واضحة وجليّة على مستوى الخدمات الضرورة والاحتياجات المعيشية للمواطن العراقي، الأمر الذي أدى الى ارتفاع نسبة البطالة واتساع هوة الفقر بين مختلف شرائح المجتمع العراقي، وهو ما لا يجب أن يحدث في بلد يسبح على ثروات طبيعية هائلة جدا. المواطن العراقي تحمّل سنوات طويلة من الكبت السياسي خلال سنوات حكم حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تميز بالسلوك الشمولي في علاقاته السياسية مع القوى الأخرى، لكنه لم يكن طائفيا على الاطلاق، ولم تكن تلك السنوات نعيما على الغالبية الساحقة من أبناء العراق، لكن، رغم ذلك، فإن الأوضاع المعيشية والخدمية لم تصل إلى المستوى الذي وصلت إليه في السنوات التي أعقبت إسقاط النظام السابق، فكانت الحرب على الإرهاب الذي اجتاح العراق بعد الغزو الأمريكي ومن ثم الصعود الخطير والكبير أيضا لما يعرف بالدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش»، شكلت هذه الحرب غطاء على ما تمور به الساحة العراقية من فساد التهم القدرات الاقتصادية والمالية للعراق. الفساد هو الآفة الأخطر التي تهدد مستقبل العراق بأكمله، فهذه الآفة نخرت مقدرات العراق حتى العظم، فلم تكن انتفاضة محافظات الجنوب، التي تعتبر مهد الثروة الوطنية العراقية، لم تكن هذه الانتفاضة مفاجئة، بل هي النتيجة الطبيعية لما آلت إليه الأوضاع في العراق، مع عدم إيلاء النخب الحاكمة الاهتمام الذي تستحقه هذه الأوضاع، بل كان همّ هذه النخب الأول والأساسي هو المحافظة على الغنائم السياسية التي جلبتها لها جريمة الغزو الأمريكي، واستغلال الأوراق الطائفية تارة، والأوراق العرقية تارة أخرى، فيما آفة الفساد وانعدام آفاق المستقبل تلاحق أبناء الشعب العراقي في جميع أرجاء بلاد الرافدين. انتفاضة مدن الجنوب العراقية، وخاصة محافظة البصرة، لا يمكن إلصاقها بما يشهده العراق من أعمال إرهابية، كما لا يمكن إخفاء أو تزوير الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تفجّرها بهذا الزخم الجماهيري، فالفساد وسوء الإدارة بالمناسبة هما آفة لا تأكل فقط ضحاياها، أو من ليس لهم فيها «لا ناقة ولا جمل» وإنما تأتي على من احتضنها وخلق لها مناخ العيش والتكاثر وتسبب في انتشارها، فهذه الآفة وما تخلقه من بطون خاوية عادة ما تكون لها فوائد ومنافع على المتضررين منها، في مقدمة هذه الفوائد والمنافع أنها تساعد على توحيد جهود أصحاب البطون الخاوية، أي الضحايا، في بوتقة عمل واحدة تساعدهم على التخلص من هذه الآفة ومن المنتفعين من استمرار وجودها. لا ينكر أحد أن الحرب على الارهاب استنزفت الكثير، والكثير جدا، من إمكانيات وطاقات العراق، وعطلت الكثير من الجهود المخلصة التي كانت تسعى لانتشال العراق من الوحل الذي جلبته جريمة الغزو الأمريكي، ولكن في الوقت نفسه فإن تلك الحرب كانت بمثابة سيف ذي حدّين، فهي ساعدت ووفرت الغطاء للفاسدين والمنتفعين ليواصلوا أنشطتهم الضارة بمصالح الشعب العراقي، وفي الوقت نفسه أغمضت هذه الحرب عيون شرائح واسعة من شعب العراق عما يدور في باطن الأرض من ممارسات لا تخدم الشعب العراقي على المدى البعيد، وإنما تتسبب في تكريس شكل من أشكال الاستبداد وعدم المسؤولية الوطنية. بانتهاء الحرب على الإرهاب، أو لنقل بتقييم أدق، مع الهبوط التدريجي للخطر الذي شكلته الجماعات الإرهابية، وخاصة بعد الضربات الموجعة التي تلقاها عمودها الفقري المتمثل في تنظيم «داعش»، ليس في العراق فقط، وإنما في سوريا أيضا، حيث البلدان يشكلان أهم قواعد وقوة هذا التنظيم الإرهابي، نقول إنه مع المستجدات الإيجابية الأخيرة في الحرب على التنظيمات الإرهابية، فإن أعين المواطنين العراقيين لا بد أن تتجه نحو أوضاعهم المعيشية الحياتية الضرورية، فلم يعد المواطن العراقي يتحمل العيش في بلد يعوم فوق ثروات طبيعية هائلة بمثل هذه الأوضاع المعيشية الصعبة، كما هو الحال مع ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب وعدم حصول المواطن العراقي على ما يحتاج اليه من خدمات ضرورية كالطاقة الكهربائية والمياه الصالحة للشرب، وغير ذلك من متطلبات الحياة المعيشية الكريمة. ما تشهده مدن العراق الجنوبية لن ينحصر في نطاق الحدود الجغرافية التي بدأ فيها، فالبطون الخاوية منتشرة في كافة مناطق العراق، وهذه البطون توحد ولا تفرق، وهي لا تعترف بالفوارق العرقية أو الدينية وغيرها من الفوارق الطارئة على حياة الإنسان، لأن آفة الفساد هي الأخرى لا تعترف بأي فوارق ومن أي شكل جاءت، ومن خلال متابعة التطورات التي تجتاح بعض المحافظات العراقية فإن ذلك ينبئ بأن العراق على موعد مع تطورات، لا نقول أمنية، وإنما سياسية واجتماعية سيكون لها تأثيرها على المشهد السياسي في العراق بشكل عام، بما في ذلك نظام المحاصصة الطائفية الذي أضرّ بجميع مكونات الشعب العراقي وشكّل ثغرات خطرة في الجدار الوطني، فليس أمام نظام المحاصصة في العراق سوى مراجعة ما آلت إليه الأوضاع السياسية والمعيشية في العراق، لأن عجلة المطالب المشروعة قد تدور بوتيرة أسرع وقد تجرف معها ما ليس في الحسبان.
مشاركة :