د. نورهان الشيخ رغم أن قمة هلسنكي ليست اللقاء الأول بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، فقد سبق أن التقيا مرتين العام الماضي على هامش قمة مجموعة العشرين، في هامبورج بألمانيا في يوليو، ثم في مدينة دانانج الفيتنامية على هامش قمة منظمة آسيا المحيط الهادئ، في نوفمبر، إلا أن إعلان عقد القمة الأمريكية الروسية في هلسنكي يوم 16 يوليو أثار اهتماماً واسع النطاق وردود فعل متباينة بين الساسة والمحللين. ويظل عقد القمة في حد ذاته خطوة إيجابية باعتبارها أول قمة رسمية بين البلدين منذ ثماني سنوات. كانت آخر قمة قد عقدت بين الرئيسين الأمريكي أوباما والروسي مديفيديف في براغ عاصمة جمهورية التشيك في 8 إبريل 2010، والتي تم خلالها توقيع معاهدة خفض الأسلحة النووية «ستارت الجديدة»، التي تضمنت خفض الرؤوس الاستراتيجية المسموح بنشرها من 2200 إلى 1550 رأساً لكل طرف. وألغى أوباما في 7 أغسطس 2013 لقاء قمة كان مقرراً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على خلفية منح موسكو حق اللجوء لإدوارد سنودن المتهم بتسريب أسرار استخباراتية أمريكية، وتناقضات المواقف في سوريا. ومنذ ذلك الحين كان لقاء رئيسي البلدين على هامش القمم الجماعية مثل قمة العشرين أو اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة هو النمط السائد. ويحمل اختيار مدينة هلسنكي دلالة إيجابية أخرى باتجاه الرغبة في إذابة قدر من الجليد الذي خيم على العلاقات الأمريكية - الروسية على مدى السنوات السبع الماضية، ووضع حد لحالة التصعيد بين البلدين. فقد شهدت هلسنكي أول قمة بين المعسكرين الشرقي والغربي بزعامة فورد وبرجينيف عام 1975، والتي أنهت الستار الحديدي بين الجانبين وأسست لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. لكن رغم إيجابية الخطوة إلا أن هناك مجموعة من العوامل التي تحجم من التفاهمات الكاملة أو «الصفقات الكبرى»، التي تحدث عنها الرئيس ترامب بين الجانبين الأمريكي والروسي. لعل أهمها تعقد الملفات المطروحة على القمة وعدم قدرة أي طرف على تقديم تنازلات حقيقية تسمح بحل جذري بشأنها. فهناك قضايا ترفض روسيا من حيث المبدأ مناقشتها أهمها تسليم الموظف السابق في الاستخبارات الأمريكية إدوارد سنودن لواشنطن، وتلك الخاصة بشبه جزيرة القرم. أما القضايا محل النقاش فتشهد تباعداً واضحاً بين واشنطن وموسكو، كما أن أولويات هذه القضايا هي أيضاً محل خلاف. فعلى قمة الأولويات الأمريكية تأتي قضية الحد من قدرات إيران النووية وتضييق الخناق الاقتصادي عليها، وتحجيم وجودها في سوريا خاصة في المنطقة الحدودية مع «إسرائيل»، باعتباره تهديداً للأمن القومي «الإسرائيلي».هذا في حين أكدت موسكو التزامها بالاتفاق النووي الإيراني، واعتبرت أن انسحاب واشنطن من الاتفاق يتناقض مع قرارات مجلس الأمن الدولي، وكان لها دور مهم في بلورة تفاهمات اجتماع فيينا يوم 6 يوليو بين «الخماسية» الدولية (روسيا والصين وألمانيا وبريطانيا وفرنسا) وإيران، والذي أكد بيانه الختامي على التزام الدول الخمس بالاتفاق مع إيران وتعويض طهران عن الخسائر الناجمة عن الانسحاب الأمريكي منه، وأهمها مواصلة توريدات النفط والمنتجات النفطية والبتروكيميائيات والغاز من إيران، في تحد واضح لواشنطن التي تسعى جاهدة لوقف صادرات طهران النفطية. كما تبدو روسيا أكثر تفهماً وقبولاً بالوجود الإيراني في سوريا، وأكد وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في تصريح له يوم 4 يوليو، إن إيران واحدة من القوى الرئيسية في المنطقة، وأن من «غير المنطقي على الإطلاق» توقع تخليها عن مصالحها. أما موسكو فتعطي الأولوية للتفاهمات حول منطقة خفض التصعيد في جنوب سوريا وانسحاب القوات الأمريكية من سوريا، باعتباره وجوداً غير شرعي يهدد وحدة الأراضي السورية. كما يزعج موسكو التهديدات الأمريكية للشركات الأوروبية وألمانيا، المتعلقة بمشروع «السيل الشمالي 2» لتوريد الغاز الروسي إلى ألمانيا. وكان الرئيس الأمريكي قد انتقد عبر تغريدة نشرها على حسابه على «تويتر» يوم 11 يوليو «ألمانيا التي تدفع لروسيا مليارات الدولارات لقاء الغاز والطاقة». وأكد أنه «من غير الملائم إطلاقاً أن تمول الولايات المتحدة الدفاع الأوروبي في مواجهة روسيا بينما تؤيد ألمانيا، وهي البلد الأوروبي الأكثر ثراء، صفقات غاز مع موسكو.يزيد المشهد تعقيداً الحراك الدبلوماسي الواضح والأجواء التي سبقت القمة، فقد عكست زيارة كل من رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، وعلي أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى الإيراني للشؤون الدولية لموسكو يوم 11 يوليو، حجم التناقضات التي تكتنف مباحثات القمة الأمريكية - الروسية وأن صياغة تفاهمات حول الملفين السوري والإيراني ليس بالأمر اليسير، وذلك في ضوء الإصرار «الإسرائيلي» على منطقة بعمق 60-80 كم على حدودها مع سوريا خالية من الوجود الإيراني. كما طرحت زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لموسكو واجتماعه مع الرئيس بوتين يوم 14 يوليو التساؤل حول طرح الملف الفلسطيني، والتداعيات الكارثية لنقل السفارة الأمريكية للقدس، خلال القمة وما يمكن أن تقدمه الأخيرة في هذا الخصوص.على صعيد آخر، بدأ ترامب رحلته إلى هلسنكي من بروكسل، حيث قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) العاصفة يومي 11 و12 يوليو، فقد لوح ترامب بالانسحاب من الحلف، الأمر الذي اعتبره البعض ابتزازاً للشركاء الأوروبيين لزيادة نسبة مساهمتهم في ميزانية الحلف، واعتبر ترامب أن العلاقات التجارية بين واشنطن ودول الحلف»غير منصفة»، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تساهم بنحو 70% من ميزانية الناتو. كما أن موقف ترامب من بوتين الذي رأى أنه لا يستطيع نعته بالعدو، معتبراً أنه «منافس» له، وحضوره متأخراً الجلسة التي كانت مخصصة لمناقشة انضمام جورجيا وأوكرانيا للحلف أثارت مخاوف الأعضاء من اتجاه ترامب لإحداث تغييرات جذرية في التوجهات الاستراتيجية للحلف، ومن ثم فهي تعول على المؤسسات الأمريكية لاسيما البنتاجون في لجم ترامب وعرقلة اندفاعه الشخصي الذي لا ترضى عنه المؤسسات الأمريكية الفاعلة. وربما كان ذلك وراء اتهام 12 شخصاً من موظفي دائرة الاستخبارات العامة للقوات المسلحة الروسية باختراق الشبكات الإلكترونية للحزب الديمقراطي الأمريكي، في محاولة لإنعاش التوتر في العلاقات الأمريكية - الروسية قبل انعقاد القمة بأيام. وأضافت الأجواء التي أحاطت بالقمة الأمريكية - البريطانية التي أعقبت قمة الناتو يوم 13 يوليو تعقيدات أخرى، حيث أثارت المظاهرات المنددة بسياسات ترامب التي شهدتها لندن حفيظة الأخير.كما أن الاجتماع الذي عُقد على هامش قمة حلف شمال الأطلسي لبحث التطورات في سوريا خاصة الجنوب السوري، وضم وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة وبريطانيا فرنسا وألمانيا والسعودية والأردن ومصر، أكد أن مباحثات ترامب مع بوتين بشأن الملف السوري لن تكون سهلة. إن الركام الذي يغمر العلاقات الأمريكية - الروسية لسنوات لا يمكن للقاء قمة أن يمحوه خاصة في ظل الظروف المحيطة بها، ولكن لا يمكن إنكار أن عودة اللقاءات المباشرة بين واشنطن وموسكو تطور مهم سيكون له تأثيره الإيجابي في العديد من الملفات الدولية والإقليمية.
مشاركة :