يُعد التاريخ الشفهيَّ oral History واحدًا من أبرز مصادر الدراسة التوثيقيّة لرصد كلّ ما يتصل بالإنسان ثقافيًا وأنثروبولوجيًا وسياسيًا واجتماعيًا في تلك التواريخ الإنسانية الكونية الكبرى، وفي التواريخ الصغرى المتعلقة بسير الجماعات الفرعيّة على اختلاف تصنيفاتها ومرجعياتها الثقافيّة. وعربيًا يُعدّ الاعتناء بالتاريخ الشفهيَّ وبالأرشفة الثقافيّة في حكم القليل النادر، ولا أنكر في هذا المجال جهود مؤسسات ثقافيّة رسميّة وجهودا ومبادرات ثقافية كبرى لأفراد ومؤسسات ثقافيّة غير رسميّة. وربَّما تعود الصعوبات في التوثيق الشفاهيّ إلى صعوبة مثل هذا العمل، واحتياجه إلى مدى زمني طويل، وإلى جهود مؤسسية وليست فردية، وإلى احتياجه كذلك إلى ميزانيات ضخمة لأرشفة المواد الموجودة وللاشتغال الميدانيّ في رقعة مكانية واسعة لأرشفة الملايين والملايين من الروايات الشفهيّة. وربَّما تعود الصعوبات كذلك إلى العرقلات التي يعانيها العمل الثقافيّ العربيّ المشترك بسبب عوامل سياسية وإدارية بيروقراطيّة حاكمة تعوق تنفيذ بعض المبادرات الثقافيّة الكبرى، وعندما تحدث مثل هذه المبادرات لا تأتي بالشكل المرجوّ المأمول. لفتت انتباهي مبادرة مؤسسة «المرأة والذاكرة» المصرية، وهي مؤسسة ثقافيّة مصرية غير رسميّة تأسَّست عام 1997، وتضمُّ نساء أكاديميات وباحثات وناشطات نسويات بغرض البحث في التحيّزات الثقافية ضد المرأة العربيّة، وخلق تاريخ ثقافيّ ينادي بالمساواة بين الجنسين في قضايا النوع والثقافة. والتحيّزات الثقافيّة الكبرى التي حجبت صوت المرأة وكتابتها هي تحيّزات عالمية وليست فقط عربية، فمن الذي كتب التاريخ ومن الذي دوّنه ووثَّقه؟! ومن الذي ألَّف النظريات الكونيّة الكبرى في مجال الفلسفة وتاريخ الأفكار الملهمة والمؤثرة؟! ومن الذي أبدع النصوص الأدبيّة الكبرى في التاريخ الثقافيَّ عالميًا؟! لن نجد في التاريخ الثقافي سوى إبداعات الرجل، وقليلة ونادرة هي إبداعات المرأة لعوائق كثيرة قلّلت من كتابتها أو لم توجدها أصلاً. أين المرأة وإبداعاتها طوال هذه العصور والحقب التاريخية؟! ولستُ هنا بصدد التحيّز النسوي مطلقًا، وإنَّما أعالج وأناقش القضية ثقافًيا وفكريًا. لعوامل ثقافية كبرى غُيبت كتابة المرأة وغُيب حتى سردها الشفاهيّ إلا في بعض النصوص النادرة التي تأتي برواية رجل، وعندما تكتب المرأة نفسها قد تستعمل ما يُسمى «العنف الرمزيّ»؛ أي تبني وجهات النظر الذكورية في الكتابة، والنماذج الثقافيّة كثيرة والشواهد أيضًا كثيرة على ذلك! وهذه الذاكرة الثقافيّة الذكورية عالمية وليست فقط عربية. انخرطت بعض الناقدات الهنديات في مرحلة النقد ما بعد الكولونياليّ في دراسة جماعة التابع، وعنين في جزء منه بإعادة كتابة التاريخ الهنديّ من قبل بعض الجماعات المهمشة ثقافيًا في كتابة التواريخ الكبرى مثل النساء. من المبادرات الثقافيّة الملهمة التي تبنتها مؤسسة «المرأة والذاكرة» المصرية الاشتغال على مشروع ثقافيّ هو «أرشيف التاريخ الشفاهيّ للنساء» من منظور النوع الثقافيّ، وقد أنتج هذا المشروع حتى الآن ورشًا أكاديمية متخصصة لتدريب بعض النساء والباحثات للقيام بهذه الأرشفة الثقافية المهمة جدًا، ولدى هذه المؤسسة موقع إلكتروني يتضمن مسحًا شاملاً لكلِّ ما يتصل بقضايا المرأة العربيّة والذاكرة بدءًا من سير النساء العربيات الرائدات إلى الاشتغالات الثقافيّة المعاصرة. أدعو هنا إلى أرشفة تاريخ المرأة البحرينيّة والمرأة الخليجيّة، وأن تكون هذه الأرشفة مسؤولية مشتركة بين مؤسسات الثقافة الخليجية والدوائر الأكاديمية المهتمة، والمؤسسات الثقافية غير الرسمية. وهذه الأرشفة ستكون مادة أساسية ثقافيّة لإجراء دراسات أكاديمية ثقافية معمَّقة لكلِّ ما يتصل بالتاريخ الشفهي للنساء الخليجيات، قد يكون بعضه دوِّن ولكن لا تزال هناك مواد بحاجة إلى تدوين وأرشفة. وهذه الدعوة ليست من قبيل دعوات تحيزية للمرأة بقدر ما هي دراسة تاريخ المرأة بوصفها مكوِّنًا ثقافيًا أصيلاً ومؤسسًا جنبًا إلى جنب تاريخ الرجل. نحن نتحدث عن تاريخ إنسانيّ شكَّلته المرأة والرجل عبر العصور التاريخية الممتدة، ولبحثه وتفكيكه لا بدَّ من الإشارة إلى دور الفاعلين الأساسيين فيه. أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المساعد، كلية الآداب، جامعة البحرين.
مشاركة :