القاهرة - ينشط في الساحة العربية مفكرون وباحثون يتبنون النهج التنويري العقلاني، هدفهم إحداث نقلة في العقل الديني يتجاوز بها الأفكار الموروثة المسؤولة عن التخلف والرجعية، وبقدر رغبتهم في الإصلاح تواجههم تحديات أبرزها معارضة المؤسسات الدينية، علاوة على تجذر الفكر الأصولي. من هؤلاء الباحث المصري أحمد سعد زايد، الذي لفت في حواره مع “العرب”، عبر الهاتف من العاصمة النمساوية فيينا، إلى حاجة الحركة التنويرية العربية إلى سلطة تقيها الأصولية الدينية والأفكار الظلامية، سياسية كانت أو اجتماعية، حتى تقوم بالدور التوعوي وتدعم خطوة الإصلاح الديني، داعيا إلى ضرورة الاستفادة من تجربة النهضة الأوروبية وعصر التنوير. يعي زايد أن التغيير الحقيقي في العقل الجمعي للمجتمعات العربية والإسلامية يتحقق من خلال عقول واعية وذكية، لكن في نفس الوقت عبر سلطة نافذة بأذرع اجتماعية وثقافية تحصن عملية الإصلاح الديني وتحرير العقول من الظلامية. ورغم العوائق ينظر زايد بتفاؤل إلى مستقبل التنوير في العالم العربي، في ظل استمرار التفاعل الإنساني الذي لن تستطيع إيقافه حدود أو سلطات، فمن وجهة نظره، ما دام التفاعل قائما فالتجربة الإنسانية متاحة للاستفادة منها، وطالما تحقق التنوير، الذي هو في حقيقته فعل فكري وثقافي، سوف يعقبه تحديث وهو فعل مجتمعي مترتب بدوره على التنوير. خلاص العالم العربي يتعرض زايد لهجوم دائم وشرس من قبل جماعات الإسلام السياسي، التي تسعى لمنعه من الترويج لأفكاره الداعية إلى تحرير العقل من سوء توظيف الدين. ونجح بعض الأعضاء المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين في البرلمان الكويتي، نوفمبر الماضي، في منع زايد من إلقاء محاضرة بالكويت بداعي أنه يروج لأفكار إلحادية تتعارض مع الشريعة الإسلامية. أمام هذه الأفكار الظلامية يؤمن زايد بأن خلاص العالم العربي لن يتحقق إلا بسيادة العقل باعتباره مقياس الأشياء جميعها. باحثون يدعون إلى ضرورة دفع عجلة التنوير لبناء مجتمعات عربية قادرة على مواكبة المستقبل والوصول إلى نهضة حقيقية ويذهب زايد بالقول إن صدمة ظهور التنظيمات المتطرفة، كتنظيمي الدولة والقاعدة، بممارساتها الشنيعة أسهمت في استفاقة العالم العربي التي تحذره من الوقوع في فخ أفكار المتطرفين، وقد أثارت الظاهرة على بشاعتها جدلا مجتمعيا، وطرحت أسئلة فكرية تهدف إلى التعرف على مدى حقيقة انتماء هذه الظاهرة إلى التاريخ والتراث، وكونها تطورا طبيعيا لما هو موجود بالمجتمع. ويستحضر زايد التجربة الأوروبية التي يراها نموذجا لبناء دولة حديثة، قائلا “إن فلاسفة القرن الثامن عشر ومفكريه ساهموا في تكريس ذلك الاتجاه الفكري العقلاني الذي قامت على أساسه المجتمعات الحديثة وخلقت ثورة علمية وتكنولوجية أسهمت ماديا ومعرفيا في دعم حركة التنوير في أوروبا”. ويعتبر زايد أن ما تحقق في أوروبا انقلاب ليس في التاريخ الغربي، وإنما في تاريخ الإنسان المعاصر، حيث دفع عصر التنوير العالم إلى التفكير بشكل مختلف ومتجدد، من خلال استدعاء العقل وتوجيه الاهتمام للحقائق العلمية والموضوعية. ويشير إلى أن العالم العربي تأثر فعليا كما تأثر غيره بعصر التنوير الأوروبي وبمشروعه الحداثي، وظهر ذلك من خلال بروز ملف الإصلاح الديني عربيا وإسلاميا منذ زمن عالم الدين المصري محمد عبده ورشيد رضا وحتى زمن نصر أبوزيد ويوسف الصديق في تونس، واعتبر ما قدمه تيار الإصلاح الديني محاولة جدية لتجاوز التيار الديني التقليدي. ويروج البعض لضرورة تجاوز الفجوة الحضارية مع الغرب، وهو ما يلزم العرب الاستفادة من تجربتين؛ الأولى تجربة الإصلاح الديني الذي حرر العقل من السلطة الدينية، والثانية هي عصر التنوير الذي حرر العقل من كل سلطان غير العقل، وهذا يتوقف على مقدرة حركة التنوير التي يتصدرها نخب مثقفة على القيام بدورها التوعوي في ظل وجود سلطات دينية متعددة على غرار تجذر وتغول الفكر الأصولي. ويجد زايد أن النهضة الأوروبية نجحت انطلاقا من الإصلاح الديني الذي بدأ خلال عصر النهضة وتلته ولادة عصر العقل مع أفكار الفلاسفة كفرانسيس بيكون ورينيه ديكارت، أما بالنسبة للعالم العربي فالأوضاع مختلفة لأن ما يفصلنا عن النهضة فجوة حضارية بين الغرب والشرق معا؛ فالعالم العربي حاليا في ذيل الأمم فكريا وثقافيا. وتكمن المعضلة في القدرة على سد تلك الفجوات، لأن تحقيق إنجاز ملموس يحتاج عملا شاقا على المستويين الفكري والثقافي، كما أن التنوير عملية تفاعلية مرتبطة بالتطور الاجتماعي الذي تمر به الشعوب العربية. لذلك يشدد زايد على أن أفكار التنوير والحداثة يجب أن تحتمي بغطاء تنظيمي سياسي واجتماعي وثقافي قادر على التأثير الجماهيري، فالتحولات الكبرى في التاريخ الإنساني احتاجت إلى هذه السلطة حينما يغيب تأثير الحوار. وتتزامن مع دعوات الاقتداء بالحركة التنويرية الغربية مخاوف من أنها تهدد التراث المحلي وتفقد المجتمعات العربية تركتها العريقة من الفكر الحضاري الشرقي، إلا أن تنويريين، ومنهم زايد، يفندون هذه المخاوف. أحمد سعد زايد: ما يفصلنا عن النهضة فجوة حضارية بين الغرب والشرق معا؛ فالعالم العربي حاليا في ذيل الأمم فكريا وثقافياأحمد سعد زايد: ما يفصلنا عن النهضة فجوة حضارية بين الغرب والشرق معا؛ فالعالم العربي حاليا في ذيل الأمم فكريا وثقافيا الهوية الإنسانية ويرى زايد أن المواطن العربي مثال للتنوع ونموذج للتعايش رغم الاختلافات الدينية، ويأمل أن يتوج هذا التنوع في لحظة حضارية نكون فيها “عربا وأمازيغ وأكرادا وبوذيين ومسلمين ومسيحيين وغربا وشرقا، كيانا واحدا في سياق مشروع إنساني مشترك، وهو ما حلم به فلاسفة العصر القديم والوسيط، وكذلك العصر الحديث، لنصبح جديرين بالعيش كجزء من البشرية”. وتوقع أن يكون المستقبل للهوية الإنسانية، فقد تجاوز الزمن فكرة الهويات المحلية والدينية، علاوة على أن الهوية الإنسانية الأقدر من غيرها على احتواء الهويات الأخرى، حتى يصبح العالم مزيجا من التنوع والاختلاف. ويرى زايد أن خلق مزيج عالمي لا يعني دفن التراث الديني، لكن إمكانية عملية إصلاحه وتجديده تجعل الأفكار الدينية أكثر قابلية للتعامل مع العصر. وهي حلول يطرحها التيار الليبرالي التوفيقي كحل وسط بين اليمين الأصولي، ومن يدعون إلى القطيعة مع التراث، ويحاول هذا التيار التوفيق بين التراث الإسلامي والمعاصر وبين العلم والدين، وهو امتداد لجهود مفكري النهضة العلمية العربية، منهم رفاعة رافع الطهطاوي وأحمد لطفي السيد، وصولا إلى زكي نجيب محمود ومحمد عابد الجابري. واقترح إنجاز مهام فكرية كأسس لمشروع الحداثة العربية، لافتا إلى أن الدور النقدي والتوفيقي ضروري وهو على عاتق مجموعة كبيرة من المثقفين والمهتمين بالشأن الثقافي، الذي يصنع الحراك المطلوب والتفاعل المجتمعي المأمول. وأردف بقوله “عصر الأنوار لم يكن مجرد مقال لفولتير أو دراسة لجان جاك روسو، إنما هو حراك ثقافي تفاعلي تطور لاحقا إلى منجز سياسي واجتماعي”. وخلص زايد في ختام حواره إلى أن “عدم وجود سلطة تحمي وتتبنى الفكر التنويري هو سبب الهجوم على مفكري ورموز التيار العقلاني التنويري”، مشيرا إلى أن “هناك من يعجز عن الحوار الفكري فيلجأ إلى التحريض والتكفير”، داعيا المثقفين الذين يتبنون مهمة تطوير العقل أن يكثفوا جهودهم بكل الوسائل الممكنة والمشروعة، مؤكد أن “المشروع التنويري ليس مجرد نشاط إعلامي ثقافي، بل هو حراك مجتمعي وجماهيري”.
مشاركة :