من أخطر الأمور المؤثرة سلباً في القرارات الاقتصادية والإدارية، الاعتقاد بصحة بعض الأوهام والأفكار، والعمل على ترديدها، لدرجة تصبح محل اعتقاد قوي ومؤثر، بل وموجه، لتلك القرارات حيث يصعب الخروج من فلك تلك الأوهام والعمل بعيداً عن تأثيراتها. يبدو أن هذا هو حالنا مع موضوع توطين الوظائف، وإيجاد فرص عمل لأبناء وبنات هذا الوطن. أعتقدنا ببعض الأوهام والأفكار، محل الشك، وأصبحنا نرددها ونضعها شماعة نلجأ إليها عند العجز في تشخيص المشكلة، ووضعها في إطارها الصحيح، وقد يكون ذلك هروباً، حيث قد يقودنا التشخيص الحقيقي إلى حلول لسنا قادرين على مواجهتها. أول هذه الأوهام، المبالغة في رمي الكرة في ملاعب الجامعات وأقسامها ومناهجها، واتهامها بعدم قدرتها على تخريج أناس مؤهلين لشغل الوظائف التي يحتاجها القطاع الخاص، متجاهلين، أولاً، أن أكثر من ثمانين في المئة من العاملين غير السعوديين في القطاع الخاص، وحسب تصريحات مسؤولي وزارة العمل، لا يحملون شهادات جامعية، بل هم من حملة الشهادة الثانوية وما دون، مما يعكس طبيعة الأعمال الموجودة لدى قطاعنا الخاص واحتياج شاغليها ومستوى تأهيلهم. ومتناسين، ثانياً، ذلك التغيير الذي حدث في مستوى بعض خريجي الجامعات لدينا سواء نتيجة برامج الابتعاث التي خرجت الآلاف من السعوديين والسعوديات من جامعات معروفة بمستواها العلمي والأكاديمي في الشرق والغرب، أو كان وجود بعض الجامعات الأهلية المميزة في الداخل، وخريجي هذه الجامعات، من داخل المملكة أو خارجها، هم من بين أولئك الباحثين عن عمل. إن رمي الكرة في مرمى الجامعات ورفع شعار مواءمة مخرجات التعليم لاحتياجات قطاع الأعمال، على إطلاقه، أمر تنقصه الدقة ويحتاج المراجعة والتأمل لوضعه في سياقه وحجمه الصحيحين، حيث الاستمرار في طرحه بهذه الطريقة سيظل وهماً يجعلنا نطارد ظل القضية وليس جوهرها.. والخطورة في ترداد هذا الوهم، لن تنعكس فقط على معالجة مشكلة التوطين، بل ستمتد إلى الجامعات وبرامجها، لدرجة أصبحنا، معها، نخشى أن تلغي جامعاتنا برامجها الأكاديمية وتستبدلها ببرامج تدريبية قصيرة الأجل، كتلك التي تقدمها المعاهد والمراكز المتخصصة. ثاني هذه الأوهام، تردادنا المبالغ فيه لقوة قطاعنا الخاص، وتكرار مقولة إنه أقوى قطاع في المنطقة، واستغرابنا من عدم قدرته على استيعاب شبابنا وشاباتنا في الوقت الذي يحتضن الملايين من غير أبناء البلد. نردد ذلك القول، أو الوهم المخدر، دون أن ندرك أن حوالي 65 % من منشآت ذلك القطاع تعمل في مجالين لا تتوفر فيهما فرص التوظيف التي يتطلع إليها الشاب السعودي إلا النزر اليسير، إذ تتركز منشآت هذا القطاع في مجالي الإنشاءات والتجارة، حيث عقود الدولة ومشروعاتها للأول، والاستيراد والتوزيع للثاني، مما يولد أعمالاً لا تحتاج إلى مهارات وقدرات عالية، وبالتالي كانت فرصاً للوافدين من أصحاب المؤهلات التعليمية المتدنية. يضاف إلى ما نردده عن قوة قطاعنا الخاص، تجاهلنا أن أغلب ثروات هذا القطاع أيضاً جاءت من مجالين يتمركزان حول تجارة الأراضي وقت الطفرة الاقتصادية، والظفر بعقود الدولة ومشروعاتها، مما ولد قطاعاً خاصاً متخماً بالأموال بما لا يتوازى مع قدرته على الإنتاج وخلق الوظائف. أما ثالث الأوهام، فهو اتهام الشباب السعودي بالتقصير والمبالغة في تعميم هذا الاتهام على الجميع، في الوقت الذي نشاهد فيه الكثير من أبناء وبنات الوطن وقد تفوقوا على نظرائهم الوافدين.. نتناسى أنهم نتاج بيئة أسهمنا نحن في خلقها، وهي المؤثر الرئيس في سلوكهم وتصرفاتهم، مما يحتاج معها العمل على مراجعة هذه البيئة كي تكون قادرة على إيجاد الشباب القادر على تحمل المسؤولية، وبالمواصفات التي نريدها ونتطلع إليها (يتبع)..
مشاركة :