هل خانتني الذاكرة؟ أم إنني أتجنى عليها كلما نسيت أمراً ما؟ هل تمارس الذاكرة الخيانة حقاً أم نحن من نمارس النسيان والتجاهل ثم نتهم الذاكرة المسكينة بما اقترفناه؟ هل تقف الذاكرة في صفوف أصدقائنا أم صفوف أعدائنا؟ سألت نفسي هذه الأسئلة وأنا أقرأ خبراً صحفياً نشره موقع إلكتروني قبل أيام بعنوان «الذاكرة تخون الكويتية سعدية مفرح وتضعها في موقف محرج»، حيث اعتمد كاتبه في صياغته على حوار قصير دار بيني وبين بعض المتابعين على منصة تويتر حول مقطع من مقابلة تلفزيونية قديمة معي لم أستطع تذكر تاريخها ولا أي معلومة تتعلق بها. كان أحد المتابعين قد أهداني المقطع الذي لا تتجاوز مدته عشر ثوان، ليضعني أمام تحد مباغت للذاكرة، فقد فشلت فعلاً في تذكر أي معلومات تتعلق به ولا متى صور ولا لأي محطة تلفزيونية، ولم أستطع التأكد من شيء سوى أنه قديم جداً، فملامح وجهي فيه تشير إلى أن سنوات لا تقل عن عشرين سنة تفصلني عن زمنه! لم أشعر بالإحراج، كما يشير عنوان الخبر، أبداً حتى أنني أعدت نشر المقطع أكثر من مرة، بقدر شعوري بالغرابة من أمر الذاكرة وكيف تتسرب منها الذكريات أحياناً من دون أن نشعر على طريقة التلاشي البطيء، فبعض الأحداث تبدو في الذاكرة واضحة المعالم محددة الألوان لكنها تدريجياً تتلاشى حتى يبيض لونها وتختفي ملامحها ولا يتبقى لنا منها سوى أطياف غائمة! تجدد النقاش في تويتر بعد نشر الخبر في الموقع الإلكتروني بذلك العنوان المثير مرفقاً بصورة من تغريدتي التي أقول فيها إنني هرمت لدرجة أنني لم أعد أتذكر أين ومتى صورت ذلك اللقاء، وصور لتغريدات متابعين لطفاء حاولوا تخفيف شعوري بوطأة الزمن الذي مر سريعاً من خلال التوكيد على أنها مسألة عادية جداً تمر بكثيرين ولا شأن لها بتقدم العمر، وأن من أسبابها كثرة المشاغل وبالتالي لا داعي للشعور بالمرارة أو حتى الإحراج، لكن النقاش تحول هذه المرة من نقاش حول الذاكرة وتصاريف الزمن إلى الصحافة ومدى اهتماماتها في الوقت الراهن. فهناك من رأى أن نشر الخبر بهذه الصيغة يعبر عما وصفه بالإفلاس والفراغ الذي جعل بعض الصحفيين يلجأون لمثل تلك الموضوعات، وهناك من رأى أنه يمثل نوعاً مما أسماه ب «الباباراتزي الثقافي»، في حين اعتبره آخرون محاولة للإساءة الشخصية لي. لكنني لم أر فيه إلا محاولة لا بأس بها من الصحفي لاصطياد موضوع مهم من حوار عادي جداً، فكم من موضوعات مهمة انطلقت من مجرد تغريدة عابرة أو تعليق بسيط عليها، وكم من قضايا اشتعلت من شرارة صغيرة أشعلتها كلمة أو جملة غير مقصودة، وبغض النظر عن عنوان الخبر الذي نشر أو حتى أسلوب الصياغة فقد أعادني إلى فترة من فترات العمر الماضي والذي تصرم ما بين الكلمات المنبثقة من بين أحبار المطابع ولوحات المفاتيح ليصير عنواناً لسيرة صحفية ناقصة برعاية ذاكرة لا تخون، ولكنها لا تجامل!
مشاركة :