يعتقد هنري ميلر أن السعي المحموم لبلوغ الكمال وتحقيق الإنجازات الشخصية من دون الالتفات إلى المظاهر الصغيرة في الحياة قد يفقدنا التمتّع بمباهجها، وبالتالي، واستنادا إلى هذا الطرح، فإن المرء عندما يكون متصالحا مع ذاته ويتمتع بالاستقرار النفسي ويتحرر من ضغط المنافسة والتحديات، ربما يكون أقرب إلى الحياة الطبيعية، طالما هو مقتنع بالعيش في القاعدة الواسعة التي لا يتزاحم فيها المتزاحمون، لأن القمة، وحسب ميلر دائما، ضيقة ولا تتسع للجميع وفسحة العيش فيها مكلفة للغاية. تذكّرت هذا الطرح عندما كنت في شارع المتنبي العام الماضي أوقّع بعضا من نسخ روايتي “خان الشّابندر” لمن اقتناها من القرّاء على اختلاف مشاربهم، لكن الذي أدهشني بحق هو شريحة الشباب من القرّاء الذين اقتنوا الرواية أو قرأوها، أقصد لجهة وعيهم وتعلّقهم بالقراءة الذكية وقدرتهم على فرز الأدب العميق المستوفي للشروط الفنية من وجهة نظرهم، حتّى أن أحدهم استوقفني في الشارع وراح يشرح لي شدّة تأثرة نتيجة موت “هند”، بطلة الرواية، فهي من وجهة نظره، امرأة على هيئة ملاك لا ينبغي أن تموت، كما أن الرواية أضفت هالة من القدسية والغموض والسحر على خرائب خان الشابندر التي راح يبحث عنها في الأزقّة الخلفية للحيدر خانة، وعندما سألته عن نسخته كي أوقعها له أخبرني بخجل بأنّه لم يتمكن من اقتنائها، لأنّه ببساطة لا يملك ثمنها، وكل ما لديه عشرة آلاف دينار تكفيه فقط للعودة إلى مدينته الحلة، وأنّه إنّما استعار نسخة من صديق له وقرأها بتأثر، فما كان مني إلا شراء نسخة خاصّة له وتوقيعها وأهدائها له. بالتأكيد لا أستطيع وصف فرحته هنا مهما حاولت، كما لا أستطيع شرح تأثري نتيجة تلك الحالة التي جعلتني أتلمس حجم المسؤولية التي تلقيها على كاهلي قضية إصدار رواية وطرحها في الأسواق. لكن من جهة أخرى وجدت نفسي أمام تساؤلات مُلحة هي، ماذا يريد الكاتب منا تحقيقه من عملية الكتابة الموجعة؟ وكيف يمكننا قياس النجاح؟ وما هي مكافأة الكاتب على إصداره لرواية ما؟ وما هي طبيعة جمهوره؟ وما هو التأثير الذي يتركه في مخيّلة وسلوك ومشاعر قرّائه؟ لقد غيّرت جولتي في شارع المتنبي مفهومي للكتابة تماما، كما علّمتني درسا بليغا لم أكن أعيه في الحقيقة، فغالبية من التقيتهم من القرّاء، سواء كانوا شبابا أم شابّات، كان يربط بطريقة لا واعية بين شخصيتي ككاتب وشخصية بطل الرواية، بل إن البعض منهم راح يسألني عن تفصيلات جانبية لم ترد في الرواية باعتباري عشت الحدث في الواقع وأهملت بعض التفصيلات، ولا أدري في الواقع ما إذا كان هذا الربط دليلا على قوة الخيال المتجسد في الرواية أم هو دليل ضعف في الفصل بين الواقع والخيال. مرّة قالت لي صديقة سورية تعمل في مجال الإخراج السينمائي، بأنّنا، نحن الكتاب والمخرجون، عندما نصدر رواية أو نصنع فيلما، إنّما ندعو الآخرين لدخول غرفنا الخاصّة والاطلاع على أحلامنا وتخيلاتنا وخيباتنا وخياناتنا الصغيرة حتّى نصبح مكشوفين تماما بالنسبة لهم، لكن تلك المشاركة، من وجهة نظري هذه المرّة، مشاركة روحية لا تخلو من الأبعاد العاطفية البحتة، كما لو كانت دعوة للآخرين من أجل المساعدة في رفع الثقل المخيلاتي وإزاحة الضغط عن كاهل المبدع، فما أن تخرج الفكرة من رأس الكاتب حتّى يتكفل بها القرّاء ليوسعوها صقلا وقدسية وتخيلات، شيء يشبه إطلاق سرب حمام حبيس في قفص ليحلّق بعيدا في سماوات الخيال الجمعي ويجسد أسطورته. تلك هي مكافأة الكاتب الحقيقة والموجعة في آن واحد.
مشاركة :