محمد خليفة يشهد العالم اليوم تحولات كبرى لا يمكن أن تقاس بما سبقها في التاريخ الإنساني، تحولات سريعة طالت العديد من أنساق الفكر الإنساني الحديث والمعاصر؛ في العديد من قضايا التاريخ الإنساني، منذ أن عرفت شعوب الأرض قاطبة الحياة الدينية والفكرية، مروراً بعصر الصناعة وانتهاء بقضايا الحداثة والفلسفة والإيديولوجيا. لقد حاول العلماء أن يضعوا الكون في إطار إنساني تتضافر في صنعه الرياضيات والمنطق على نحو يستجيب للنزعة الحتمية الموروثة في الفيزياء، بحيث يمكن تفسير شتى جوانب الظاهرة الإنسانية نحو الدوران في فلك العلم والوجود، استناداً إلى الإيديولوجيا السياسية. وقد تساءل كبار علماء الفلسفة والبيولوجيا والفكر السياسي في أكبر مؤتمر عقد في إيطاليا، حول مستقبل العالم، وأسباب الصراع الإيديولوجي في بقاع الأرض، وما أدى إلى أن تصبح الإيديولوجيات الكلية المتطرفة في تعارض حقيقي مع التنظيم العقلاني والعلمي للمجتمعات، وعدم القدرة على تفسير أو فهم ما يجري في الأوطان العربية من تطرف، وعوامل الأنانية الفردية، وغياب جوهر العدالة، وعن السبب الحقيقي وراء كل هذا العنف الذي يتخذ شكل القتل الجماعي وبطريقة درامية فاشية ومتقنة في قتل الناس. وهو النزوع إلى التكوينات التفكيكية، التي تعبر عن فكر هذه الجماعة الظلامية؛ من أجل السيطرة الشاملة على حركة الكون الإيديولوجية، وإعادة البشرية إلى ما قبل التاريخ، أو القرون الوسطى، وبتفسيرات لاهوتية تراثية مطلقة ومتطرفة ومدمرة وقاتلة، والتي أصبحت تشكل، في تصوراتهم، الحقيقة المطلقة التي تهيمن على عقول الشباب وواقع الحياة، بممارسة الفكر الأصولي، والعجز عن رؤية الوجود بنظرية المعرفة، وبقوانين الطبيعة. لقد انبثقت رؤاهم من سراب الفقر العلمي خلف نهايات مأزومة في مونولوج أليم كئيب لا يخلو من ملامح تراجيدية على اعتبار أن الألم قرين الحياة للعيش في شبكية هلامية افتراضية تتغلغل في معاني مفاهيم الوهم؛ الوهم كواقع حقيقي مأزوم. وهذا ما أشارت إليه مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في كتابها «التطرف البشري من عودة الفاشية بكافة أشكالها»، الظلم، القتل، والفقر. وتذهب إلى أن الفاشية ليست بالتجربة المنعزلة أو الفريدة عبر مجمل التاريخ البشري، وإن أخذت أعلى تمثلاتها في ألمانيا وإيطاليا، وحتى مأساة الحرب العالمية الثانية، فهي تعد أن الفاشية ابنة التجربة السياسية الإنسانية، وأنه ليس هناك بالفعل ما يمنع تدحرج الأمور إلى تلك الهوة المظلمة مجدداً. وهي تنطلق من هذا التصور لتسجل حقيقة تجل تعددي لافت لأوجه التماثل بين الأجواء التي أنتجت تجربة القرن العشرين الفاشية القاسية، وما يشهده العالم والغرب تحديداً من انقسامات عالية الاستقطاب بين فئات المجتمع، وتفاوتات اقتصادية وموجة السياسيين الشعبويين، وتنقل اللوم إلى تأثيرات العولمة، زاعمة أنها قد تسببت في تهديد إحساس الأفراد بالهوية، وتشير إلى نقاط بارزة يمكن ربطها بالرئيس الحالي للولايات المتحدة الذي تصفه بأنه أول رئيس معاد للديمقراطية في التاريخ الأمريكي كله. حتى العقل الكلي الذي يقود الإنسانية، أحياناً، إلى الطرق المظلمة المؤدية إلى الهاوية، والذي ينسحب أحياناً أمام طغيان العاطفة، فتصبح العاطفة سيدة الموقف، وهي المسيطرة والمسيرة لتصرفات الإنسان، والعاطفة، في كثير من الأحيان، عمياء، فيأتي الضرر مضاعفاً طالما عبر البشر عن رغباتهم العميقة في الخلاص من قيود واقع تاريخي ما؛ بالهروب إلى الأمام نحو واقع جديد مفترض على الأرض، ومن ثم تولد أنماط عدة للفكر الطوباوي، التي كانت الشيوعية في الجوهر إحدى أبرز نماذجه كإيديولوجية عن المجتمع والتاريخ والإنسان، ومع ذلك أفضت عملياً إلى أبشع صور الديكتاتورية برؤية متخفية مركزها إنساني، ومحيطها إيديولوجي، وقلبها سياسي، وجوهرها مادي. والآن فشلت ربيبتها الرأسمالية الفشل الذريع في تعاملها مع الإنسان، وأصبح العالم أحد أبرز الفصول المأساوية في تاريخ الفكر السياسي، وليس كالحرب من عامل في تسريع خطى الأنظمة المتهافتة نحو مصيرها. فالحرب أسقطت القيصرية نظاماً ومؤسسات، ودمرت دولاً وأهلكت الشعوب، هذا هو القانون الذي خطّه التاريخ والذي ينص على أن من يبدأ الحرب لا يقطف غير ثمار الدمار والسقوط.ولاشك أن التاريخ يعيد نفسه اليوم، وما نشهده من ظواهر هذا التجاذب الإعلامي للاستعداد للحرب لدرجة تجعل الصدام في كافة الإيديولوجيات الفكرية والسياسية والاختناق داخل قوقعة القوة تسير بخطى نحو الحرب والتشرذم والانقسام وهدم الدول وتفكيكها؛ نتيجة الرأسمالية الفاشية التي أصبحت كبنية ضخمة تشتغل بمنطق كاسح وتتجاوز منطق الدول لتدار بمنطق العصابات. فالعالم بات يعج بالشركات العابرة للقارات، التي تسعى نحو التدمير المنهجي لكل التدابير الاجتماعية والقيم الأخلاقية. med_khalifaa@hotmail.com
مشاركة :