تأتي مسرحية مقامات بديع الزمان الهمذاني لفرقة لحظة للمسرح المغربية التي استضافتها هيئة البحرين للثقافة والآثار ضمن مهرجان صيف البحرين 2018 والتي قدمت على خشبة الصالة الثقافية بالجفير، لتؤكد امتدادها المخلص والتراثي الرائي لأحد أهم مؤسسي الاحتفالية في الوطن العربي، وهو الفنان المغربي الراحل الطيب الصديقي، الذي شكل وهجه المسرحي البحثي في هذا الاتجاه، عبر اتحاد المسرحيين العرب آنذاك، إضافة إلى منظري الاحتفالية بالمغرب، عبدالكريم برشيد والدكتور عبدالرحمن بن زيدان، وهي في رأيي بمثابة تكريم خاص لهذا الفنان المؤسس والمؤثر في الساحة المسرحية المغربية أكثر تحديدا. في هذه التجربة التي تصدى لها المخرج محمد زهير، وهو أحد من عملوا مع الصديقي في أغلب تجاربه المسرحية، نكون أمام رؤية مختلفة حاولت تحرير المقامات من فضفضتها التراثية التي حفلت بها تجارب الصديقي، حيث كل ما يتعالق مع الشكل التراثي في معطياته الإيقاعية والاستعراضية واللونية والغنائية والمشخصاتية والجوقاتية، هو الأساس في التجربة، بمعنى أن الصديقي عبر مقاماته هذه يروم البحث بالدرجة الأساسية عن الشكل أو الفضاء المسرحي الذي يلتئم مع موروثنا العربي قلباً وقالباً. إن المخرج زهير في هذه التجربة يقترح رؤية أخرى أكثر اختزالية للموروث وأكثر انفتاحاً على أفق الممثل الأدائي، لذا نلحظ اشتغالاته وبشكل واضح وكبير على أداء الممثل ذاته وإمكاناته الفنية المتعددة، بجانب اشتغالاته على المقامات بوصفها تراثاً أدبياً وفنياً مهيأً للعرض أكثر من كونه القضية كلها في العرض، كما نلحظ قدرته على تحرير فضاء العرض من أثقال المعمار التقليدي التراثي وزخارفه التي تشتغل مع الممثل بوصفها مكملا لأدائه وليس بوصفه محاوراً لها. لذا كان امتداده المخلص للصديقي من منطلق فسحة الرؤية وليس في ضيقها أو في محاكاتها كما قدمها الصديقي نفسه. وهو إذ يعرض هذه المقامات القردية، والمكفوفية، والدينارية، والأصفهانية، والساسانية، والمجاعية، والوعظية، والخمرية، والمضيرية، فإنه يعرضها بوصفها مشهديات تخضع لقراءة معاصرة، وكما لو أن عناوين هذه المقامات شكلا من أشكال الفصول المسرحية المتداخلة التي تجمع بين أزمنة متعددة، وإن كان راهننا العربي هو بؤرتها الزمنية التي تتكئ عليه رؤية المخرج زهير، على خلاف الصديقي الذي يعرض هذه المقامات لكونها امتدادا لأزمنتها التي عاشها الهمذاني وعيسى بن هشام. في هذه التجربة نكون أمام عرض كوميدي ساخر، استثمر فيه المخرج زهير مختلف الإمكانات الأدائية لدى الممثل، من أداء صوتي متنوع وأداء حركي حر يتنقل فيه الممثل بين الرقص الكاريكاتيري والتمثيل الأراجوزي والشقلبة القرادية، وقد تمكن الممثلون والممثلات من تشكيل فضائهم المسرحي الذي ينسجم ويتناغم مع رؤية المخرج الاختزالية للمقامات ومع إمكاناتهم الهائلة في التعبير الأدائي. وبالرغم من ورود كثير من فسح الأفضية الأدائية التي تقتضيها تجربة الصديقي في غير مكانها، كمسرح الفنا أو مسرح البساط ومسرح الحلقة، إلى أن المخرج زهير آثر الاشتغال على الخشبة وفق فسح حر لا تتجاوز القطع المؤثثة فيه، شماعتين وقواعد خشبية (بروتكبلات) متوسطة الحجم لا تزيد عن الثلاث، وبالتالي كان الممثل هو من يشكل بأدائه المتنوع سينوغرافيا العرض. التاريخ والموروث ومنابعهما القديمة في هذا العرض أشبه بأيقونات قديمة يستحضرها الممثل للتعليق عليها، مقدما جسده الراهن للمتلقي بوصفه هو من يعيد صياغة هذا التاريخ وهذا الموروث، ويحدد موقفه منهما، لذا كانت الإمكانات الأدائية لدى الممثل تقترح مشهديتها على المتلقي بوصفها ربيبة تجربة معاصرة استثمرت فنون السيرك والكوميديا دي لارتي والتغريب البريختي ومسرح البولوفوار لتكون هي الحكاية والعرض، وهنا يتبدى الجهد الإخراجي والرؤيوي لدى المخرج زهير، الذي لم يكن ينشد أن يكون عرضه ريبوتوارا كما اعتقد البعض لمسرحية الطيب الصديقي، إنما ليكون قراءة جديدة باحثة لما تصدى له الصديقي في عرضه سابقاً، وليكون هؤلاء الممثلين الستة بحجم قوافل الصديقي في قدرتهم الأدائية لكل الشخصيات التي تصدوا لتجسيدها على الخشبة. فتحية لكل فريق العرض، المخرج محمد زهير وأبطال العرض الرائعين، جميلة الهوني، مريم الزعيمي، إيمان الرغاي، عادل أبا تراب، مصطفى الهواري، جمال النعمان، زهير أيت بن جدي.
مشاركة :