لم يعرف العراق معنى العطش إلا سنة 1976 بعد بناء السدود في تركيا وسوريا عندما جف نهر الفرات وتعرض السكان إلى مخاطر تهدد الحياة وتنذر بالهجرة والارتحال، لكن رغم الواقع السياسي المرتبك حينها بين العراق وسوريا استطاعت الدولة استنفار وزاراتها المعنية ودبلوماسيتها وإعلامها للضغط على دولة المنبع ودولة المجرى لمراعاة حقوق العراقيين، ضمن ما ينصفهم به القانون الدولي من حق في الحياة الإنسانية واستمرارها. العراق يتعرض لأسوأ مواسم الجفاف بكارثة بيئية أتلفت نصف أراضيه الزراعية وما يتجاوز 30 بالمئة من ثرواته الحيوانية والسمكية، أي بتصفير بعض الزراعات وتشطير بعضها الآخر كالأرز والذرة وزهرة الشمس والقطن وغيرها، بما يتبع ذلك من خسارات في الصناعات الغذائية وأثرها الممتد في سنوات لاحقة، بما يمكن أن يؤدي إلى تغير وجه العراق الذي عرفناه بزوال الأرياف والقرى وطبيعة المدن لانتقال الناس إلى أماكن أخرى طلبا للماء والطعام. في هذا التوقيت الصادم مع صور من وقائع الجفاف تكون التظاهرات والاحتجاجات قاصرة عن إيصال فكرة الثورة أو التمرد على ملامح وبوادر إبادة جماعية بسبب الإهمال واللامبالاة من قبل نظام سياسي تقوده الأحزاب الطائفية بفكر ميليشيوي ساذج ومتخلف. الإبادة هذه المرة بدوافع ومبررات خارجة عن السيطرة والكراهية والتغيير الديموغرافي المذهبي والثأر والانتقام. فبعد اكتمال المجازر في المدن المطلوبة على قائمة ولاية الفقيه، كانت الميليشيات والأحزاب وحكومة الاحتلال على موعد مع مطالب أبناء الجنوب بتوفير الخدمات وفرص العمل للشباب، وهي في معظمها مطالب تحت سقف الفساد المستشري في مفاصل دولة مصابة بأمراض مستعصية على العلاج. دولة مأخوذة بفكرة الانتظار والمظلومية واللطم على مدار السنة، لاستدراج العواطف ودواعي الصبر والتخدير مع الترهيب بإثارة مكامن الخوف من ردود فعل مذهبية وطائفية في محاولة لربط مصير أهل الجنوب، عموما، بمصير الميليشيات وسلطة الأحزاب الطائفية في كمين لوأد أي تململ أو صوت معارض، حتى لو كان يطالب بحقوق إنسانية لها تماس بحق البقاء على قيد الحياة. العراق في مفترق طرق لا بد للشعب فيه من أن يحسم أمر شتاته وحيرته وتناقضاته ومآسيه وفرقته وجراحه وجوعه، وعطشه للماء والحرية والكرامة، والحب الذي كان يجمعه على وطن كان له فيه فرح وخير ويد ممدودة للأمل والتقدم. الخلاص والانعتاق لن يكونا إلا بصدمة الثورة على الاحتلال الأميركي الإيراني في مراجعة متعقلة لفترة معقدة وطويلة من تاريخ العمل السياسي في العراق، انتهت بالاحتلال ثم انتهت إلى جفاف مطلق في مصبات سياسة الأحزاب الطائفية بما لا يدع مجالا لبقايا ثقة بالنظام أو بالانتخابات وطروحات تشكيل الكتلة الأكبر في برلمان قادم سيختار رئيس وزراء منه، ويمثل حتما عاهات النظام وبنادقه ومكره ومصالحه وأجنداته. عملية سياسية لنظام عليه أن يرحل قبل زوال أجزاء من العراق، وقبل أن يكتمل تحول شعب العراق إلى مجموعات بشرية متباينة تتنازع بضراوة في ما بينها من أجل البقاء على قيد الحياة أو ربما قيد اللجوء جفاف فكري ونضوب في الوطنية والانتماء أوصلا العراق إلى انهيار كيان الدولة ووظيفتها في إدارة مواردها وعلاقاتها مع الدول، بما يظهر في فشلها وتراخيها بمعالجة أسباب الجفاف في مصبات النهرين العظيمين دجلة والفرات. عقم الوزارات وأداؤها مرتبطان بتركيبة النظام العام لدولة الميليشيات المحمية أساسا بقوانين على مقاسات التخريب الشامل لحياة الشعب العراقي. دولة يموت أهلها من العطش وينحر فيها النخيل وتهلك فيها الأبقار والأغنام مع حقول الأسماك والزراعة ويهاجر فيها الناس مع أحزانهم. شعب العراق، وهو يرقد على سرير أهوال الإرهاب وتقرحات الميليشيات، يتعرض لأقسى هجمة تنال من وجوده وتتمثل في قطع روافد الأنهار من المنبع لأسباب بناء السدود أو بناء الغايات من ورائها سواء في تركيا أو في إيران. حكومة العراق رغم تردّي الأوضاع تلتزم الصمت أو تمارس التحليل وتوصيف الخلل لتوضيح عدم تقصير المسؤولين عن ملف المياه، إذ لم نقرأ حتى خطابا للاستغاثة بالأمم المتحدة أو الدول الكبرى للتدخل، أو تنشيط استثنائي للزيارات الرسمية بأعلى المستويات إلى الدول المعنية لإطلاق الكميات اللازمة في هذا الموسم ولتأجيل ملء خزان أليسو التركي إلى موسم الشتاء حيث الوفرة المائية. العراق يحتاج إلى سدود إضافية في كل محافظة وبسعات مختلفة، رغم أن التقارير العلمية المختصة تؤكد أن السدود الموجودة تغطي الحاجة، لكن الجفاف حصل نتيجة لقلة الأمطار وقلة تساقط الثلوج مع زيادة كميات الهدر في مياه خزن السدود بسبب التبخر؛ وبهذا فإن الحاجة تؤكدها الوقائع والسياسات المائية في دول المنبع وكيفية إدارتها للمشاريع المستحدثة، بما يستلزم الاستفادة من كل مياه الأمطار وتدفق السيول داخل الأراضي العراقية وذلك باقتفاء الخطط والدراسات العلمية استعدادا لما هو أسوأ. عملية سياسية منهارة وضعت العراقيين أمام حقائق يفترض معها أن يكون رد فعل ثورتهم موازيا لحجم كتلة الانهيار، لإعادة العراق وانتزاعه من مخالب الأهداف الأساسية للاحتلال التي باتت اليوم جلية بعد تسليم العراق إلى عملاء المشروع الإيراني. الاحتلال الأميركي ساهم في إشاعة الإفساد عندما ترك لمن جاء معه واجبات الإشراف على المشاريع والتعاقد بشأنها، ولقصة الكهرباء في العراق شهادة أميركية تختفي في أسباب غياب الشركات الكبرى الرصينة ومنها الشركات الأميركية بما يعطي الانطباع إن ثمة غاطس في مآلات نفط العراق ونظام الحكم والشخوص أيضا. دول المنبع لا يمكنها احتجاز المياه أبدا، فللطبيعة قوانينها، والسدود تمتلئ مع الأيام، والأمطار والثلوج قد تلوح بالفيضانات، لكن من مزايا دولة الميليشيات أنها لم تلجأ إلى القوة، حتى في التصريحات، لمواجهة من يمنع الماء عن أبناء العراق وهم أحفاد أبناء العطش. وهذه الدولة لا تلجأ إلى المرجعية المذهبية لإصدار فتوى أو بيان يدين إيران وتركيا ويدين النظام السياسي لعدم أداء واجباته في حماية حياة المواطنين وتلافي الإبادة البيئية. عملية سياسية لنظام عليه أن يرحل قبل زوال أجزاء من العراق، وقبل أن يكتمل تحول شعب العراق إلى مجموعات بشرية متباينة تتنازع بضراوة في ما بينها من أجل البقاء على قيد الحياة أو ربما قيد اللجوء.
مشاركة :