في شهر مارس من العام 2010 كتبتُ مقالاً بعنوان (لا.. ليست هذه هي البحرين التي نعرفها)، وذلك بعد أن رصدتُ المتغيرات الدراماتيكية التي انحدر إليها المجتمع البحريني من تفكّك في العلاقات وتدنّي في الأخلاقيات والسلوك بسبب تكدس السكان من كل عرق ولون، وحالة الفقر والعوز التي يُعاني منها المواطنون باستمرار، والقهر والتهميش والبطالة وقلّة الحيلة. وأذكر أنني طالبتُ بإعادة النظر والالتفات إلى أوضاع المجتمع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل ان يتداعى وتنهار قيَمه وهويته وأصالته. ويُصادف هذا اليوم ان اكتب مقالاً بذات العنوان بعد حادثة الاعتداء الآثم على إمام احد المساجد في البحرين وقتله، والتمثيل بجثته، من قبل المؤذن ورفاقه من إحدى الدول الآسيوية، حيث تذكرت كم تتغيّر البحرين سريعًا وتكاد تنحدر (اجتماعيا) نحو الهاوية.. في وادٍ سحيق من الفوضى والخراب والإهمال، إذا لم يتم احتواء مكوناتها سريعًا.. وتجميع قطعها المتناثرة وزجاجها المُتشظّي، وتطبيب جراحها. منذ الأربعينيات من القرن الماضي إلى الثمانينيات منه.. كانت البحرين عذراء جميلة، وكنا سعداء بها، على الرغم من قسوة الحياة وشظف العيش والعناء. كانت أعداد المواطنين قليلة وتُعدّ بعشرات الآلاف فقط... والغلبة من السكان كانت لأهل البحرين من صميم أهل البحرين.. الذين هم الأهل والأصدقاء والأقارب والمعارف، وكانت البيوت في الفرجان متلاصقة... ومعجونة بعضها ببعض بالوِدّ والطين والاحترام. كنا نعيش قريبين من بعضنا بعضا.. متحابين ومتعاضدين وكأننا أسرة واحدة.. ولم يكن للغريب بيننا مكان... وإذا تواجد الغريب بيننا بسبب العمل أو الضيافة وجدته خاضعًا (لهيبة المجتمع) وِفق عاداته وتقاليده وأعرافه، ولا يجرؤ الغريب ان يخرجَ على هذه العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية لأنه سوف يواجه بردعٍ ونهرٍ وزجرٍ من قبل أفراد المجتمع إذا اخطأ في حقهم أو تجاوز عليهم. وكان كل المواطنين يعملون أو يتعلمون.. إما كبارًا يعملون في الإدارات الحكومية والشركات والأسواق، أو اطفالاً وفتيةً طلبة وطالبات في دور العلم والمدارس. ابدًا لا تجد عاطلاً أو مُتسكّعًا من افراد المجتمع يجوب الطرقات والفرجان، لأن (البطالة) في ذلك الوقت كانت تُعتبر (عيبا) ونقيصة في حق صاحبها، وكانوا يُعيبون على العاطل بطالته وتسكعه. ولذلك كان الجميع يعمل، وكانت الوظائف والأعمال متوافرة ومتاحة للجميع. وكنا أسرة واحدة في مجتمعٍ ودود مترابط ومتراحم، وبيوتٍ متلاصقة، تعانق بيوتها ساحل البحر في المحرق والمنامة وجدحفص والمالكية والزلاق وسترة. لم نعرف الشقاق أو التحزب أو الطائفية. وكنا ننام وابواب بيوتنا مفتوحة، يُظللنا الود فيما بيننا والنظام والاحترام. ولكن دوام الحال من المحال... حيث (اخترب) كل شيء في البحرين بعد هذه السنوات الجميلة. واصبحت الفوضى عارمة، واختلط الحابل بالنابل، وتكدس الناس بعضهم فوق بعض في الشقق والبنايات السكنية التي زُرعَت في مناطق شتى في البلاد لاستقبال النمو السكاني المضطرد والوافدين من جميع الأعراق والجنسيات، حتى اصبحت البحرين تغص بأهلها والوافدين. وشحّت فرص العمل، وجفّت عيون المياه العذبة، فهجر الفلاح ارضه. وهجر البحار سفينته بسبب فوضى الصيد في البحر.. وشح الرزق... واصبح البحار كسولا.. واعتمد في رزقه على بضعة (بنغالية) يؤجر عليهم طراده ورخصة البيع، ويكتفي هو بنسبة من العائد. وازدحم البحر بالهواة والمحترفين.. والشياطين... من كل جنس ولون... من دون ضابطٍ أو رابط.. وجرفت ماكينات الحفر الظالمة الجبّارة قاع البحر وخيراته بكل همجية واستهتار... ودمرت مراعي الاسماك وبيوتها الصخرية... وتصحرت البساتين ومات النخيل وأنشئت فوق اراضيها بناياتٌ وغاباتٌ من الاسمنت. ثم تشتت الناس في القرى والمدن والتجمعات الغريبة والبعيدة عن مناطقهم وفرجانهم العتيقة.. ونزحوا من ديارهم، وأجروا بيوتهم القديمة (برائحتها القديمة وذكرياتها) على انفارٍ من العمالة الأسيوية التي انتشرت بالآلاف في مدن البحرين وقراها. وعاش المواطنون (غرباء) عن بعضهم بعضا في المناطق الجديدة لايجمع بينهم سوى جدرانٌ من الاسمنت والطابوق...!! ثم تعقدت الحياة... وضاق الحال... واصبحت الحياة قاسية على الفقراء... ولم يعد في (الروبية) بركة... واصبح (الدينار) صعب المنال، وازدادت الحياة ضغطًا على اعصاب المواطن وقلبه، وشلت تفكيره وهو يسعى كادحًا من اجل توفير لقمة العيش لأطفاله وأسرته ويلبي احتياجاتهم ويسدد الرسوم ويستر نفسه. وازدادت همومه، واجهدت صحته... وانتشرت أمراض القلب والجلطات... واصبح المواطن في معظم اوقاته محتارًا... شارد الذهن... يراك ولا يراك..!!.. وامتلأت الديرة بالغرباء.. وأصبح المواطن لا يأمن على اهل بيته من جاره.. ومن السكان من حوله.. حتى أنه أصبح لا يأمن من غدر المؤذن معه في المسجد.. وهو معه على سجادة واحدة.. وقبلة واحدة. فمن الذي سرق البحرين الجميلة منّا، وسرق الفرحة والأمان من بيوتنا وقلوبنا...؟!!
مشاركة :