لا شك أن تعرّف الأجيال الجديدة من متفرجي السينما العرب، لم يبدأ في الأزمان الراهنة إلا منذ بدأت تظهر أفلام المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، القصيرة ثم الطويلة، والتي اعتاد أن يقوم بنفسه بالأدوار الرئيسة فيها، إذ مع ظهور سليمان ممثلاً في أفلام له مثل «سجل إختفاء» و «يد إلهية» و «الزمن الباقي»، راح النقاد السينمائيون يماثلون بينه، كممثل في أفلامه على الأقل، وبين الأميركي باستر كيتون، أحد عمالقة الكوميديا الهوليوودية، قائلين إنه ينتمي إليه وإلى مدرسته في التعبير الصامت (حيث، وكما حال كيتون ابن السينما الصامتة بامتياز وبكل معاني الكلمة، بالكاد يتكلم إيليا سليمان في أفلامه)، وكذلك في الوجه غير المعبّر، إذ من المعروف أن باستر كيتون ظهر في أفلامه كلها، وهي كثيرة العدد بالطبع، من دون أن يبدل من ملامحه في أي مشهد من المشاهد. هو الذي أضحك مئات ملايين المتفرجين على مدى تاريخه السينمائي، من دون أن يرسم على وجهه أي ابتسامة. وكان ذلك هو سره الذي أمن له نجاحه كما يجمع مؤرخو السينما الهوليوودية، لا سيما في زمن كان التنافس فيه شديداً ومراً بين عدد كبير من السينمائيين الكوميديين، زمن يكفي ذكر أسماء أقل من نصف دزينة من مبدعي الكوميديا الصامتة فيه حتى ندرك ضخامة مهمة من كان يريد خوض المغامرة: من تشارلي شابلن، إلى هارولد لويد، والإخوة ماركس وغيرهم... وصولاً طبعاً فيما يخص موضوعنا هنا إلى باستر كيتون الذي كاد أن يكون المنافس الرئيسي لشابلن وإعتُبر دائماً أكثر ثقافة منه لكن هذا موضوع آخر لسنا بصدد الخوض فيه هنا. > ولئن كان النجاح قد حالف باستركيتون في القسم الأكبر من أفلامه التي واصل تحقيقها عملياً حتى العام 1935، أي العام الذي توقف فيه مساره المهني، فإنه عاد وظهر بعد ذلك في فيلم مكسيكي وآخر كندي، علماً أن آخر عمل كبير له كان من إخراج... صموئيل بيكيت سيّد مسرح اللامعقول، الذي جرّب حظه عبر ذلك الفيلم في السينما أيام عز نجاحه كمؤلف مسرحيّ. ولقد أطلق بيكيت على الفيلم، في كل بساطة، اسم «فيلم». أما الفيلم الذي لا يزال يعتبر حتى اليوم، من بين أفلام باستر كيتون جميعها، واحداً من أهم عشرين فيلماً في تاريخ السينما فهو «ميكانو الجنرال» الذي حقق العام 1927 وكان ذروة ما وصل إليه فن الهزل الهوليوودي، لكنه كان في الوقت نفسه أكثر من ذلك بعض الشيء: كان فيلماً جريئاً في حديثه عن العلاقة بين الإنسان والآلة في عصره. ومن هنا لم يكن غريباً أن يرى كثر من النقاد أنه لولا فيلم «ميكانو الجنرال» لباستر كيتون، ما كان ليوجد فيلم «الأزمنة الحديثة» لتشارلي شابلن. ليس معنى هذا أن فيلم شابلن اقتُبس من فيلم كيتون، أو أنه كان يقل عنه قوة وجمالاً... بل يعني فقط أن «ميكانو الجنرال» كان فيلماً رائداً ومنبّها في مجال رسم العلاقة بين الإنسان، كرمز لديمومة أزلية، والآلة كرمز لزمن هاجم. > تدور أحداث «ميكانو الجنرال» في ولاية جورجيا الأميركية في العام 1861، من حول جوني (كيتون) الميكانيكي الريفي الصغير الذي يعيش حياته هادئاً وادعاً وسط هوى مزدوج. فهو من ناحية مغرم بخطيبته الحسناء آنا بيلا، ومن ناحية ثانية مهووس بقاطرته التي يعنى بها، من دون أن يحدد ما إذا كانت الأفضلية في حياته لحسنائه أو لقاطرته. ولكن الأحداث ستربط بين الغرامين في بوتقة واحدة. وهذه الأحداث تتسبب فيها الحرب الأهلية التي تندلع، ومع اندلاعها يجنّد الرجال جميعاً... باستثناء جوني الذي تفرض عليه مهنته أن يبقى في المؤخرة للعناية بالعربات. ولكن ذات يوم يحدث أن تتمكن مجموعة من المقاتلين الشماليين من سرقة قاطرته لكي تجر قطاراً مهمته أن يوجَّه لبث الرعب والفوضى في صفوف الجنوبيين. بالنسبة إلى جوني، من المؤكد أن البعد السياسي للأمر ليس هو ما يهمه. ما يهمه هو أن قاطرته قد سرقت وعلى متنها خطيبته الحسناء التي كانت، عند ذاك، تحاول التوجّه بالقاطرة لزيارة أبيها الجريح. وإزاء هذا الخرق الشمالي المزدوج لحياته، لا يعود أمام جوني إلا أن يوقف عمله الميكانيكي كله للإنخراط في الحرب، لاستعادة قاطرته وخطيبته. أما وسيلته لخوض تلك الحرب، فرحلة محفوفة بالشجاعة والخطر يقوم بها مطارداً القطار وقاطرته المسروقة، وسط سلسلة من الأعمال التخريبية والسباقات والبطولات، مع إطلاق رصاص لا يهدأ وعربات تخرج عن سكتها ومكائد تحاك... وبطولات تظهر، لا سيما منها بطولة جوني (باستر كيتون) نفسه الذي ينتهي به الأمر إلى الانتصار في شكل يبدو معه وكأنه وحده قد ربح الحرب كلها. وهو إذ يتمكن من هذا ويستعيد فاتنته، تكتشف هذه مقدار بطولته وشجاعته وتفانيه من أجلها، فلا يكون أمامها إلا أن تقع بين ذراعيه مولهة بدورها. > هذا الفيلم الذي بناه باستر كيتون على حادثة حقيقية حدثت خلال الحرب الأهلية وتمثّلت، بالفعل، في سرقة قاطرة من قبل الجنود، في محطة بيغ شانتي، تمكن الفنان من تحويله إلى عمل مطاردات رائع. وهو من أجل ذلك آثر أن يضع العديد من القطارات والعربات، التي أطلقها، لغرض تصوير الفيلم، في براري ولاية أوريغون، تسرح وتمرح على هواها في ألعاب بهلوانية لم يكن قد سبق للسينما أن عرفت مثلها من قبل. هنا، في هذا الإطار، ومن دون أن يخرج عن الخط المعهود لأفلام المطاردات، استبدل كيتون المطاردات بين البشر وبين السيارات في شوارع المدينة، بمطاردات تتم بين القطارات في هندسة مدهشة، كان هو- باستر كيتون- قائدها ومحركها. والأغرب من هذا كله أن باستر كيتون حرص في عمله كله على الاهتمام بالتفاصيل إلى درجة أن الديكورات والآلات والعربات بدت واقعية إلى أبعد الحدود، من دون أي صبغة كاريكاتورية. ولقد تمكّن الفنان عبر هذه الواقعية من أن يشد متفرجيه الذين أدهشهم أن يشاهدوا ذلك الباليه تقوم به عشرات العربات وسط براري لا تنتهي، وفي قيادة ذلك كله رجل وحيد، بالكاد تخلو منه لقطة من لقطات الفيلم. والمدهش أيضاً هو أن كيتون عرف كيف يقيم توازناً دقيقاً بين الآلة والإنسان والطبيعة على مدى مشاهد الفيلم. > ومع هذا كله، حافظ باستر كيتون في «ميكانو الجنرال» على سحنته نفسها، لم يترك للأحداث المتعاقبة على طول مشاهد الفيلم أن تبدّل من ملامحه. فلا الخوف ولا الفرح ينعكسان على ذلك الوجه، ولا الحب أو رغبة الانتقام من الجنود السارقين، بديا من الأمور التي يمكن أن تخرجه من قناعه الدائم. ومع هذا، بسحنته هذه، تمكن باستر كيتون، في هذا الفيلم كما في أفلامه كلها، من أن يجعل من هذا الوجه «مكاناً لطاقة ولثراء تعبيريين مكثفين حتى ليكادا أن ينفجرا». أما من ناحية اللغة الفنية للفيلم، فإنها لا تزال حتى اليوم تقارن، بأداء شابلن وغريفيث وجون فورد كمخرجين، لا سيما بلغة هذا الأخير الفنية التي ارتبطت بالحركة وسط البراري واقتحام الآفاق. ومن هنا لم يكن غريباً أن يوصف «ميكانو الجنرال» أحياناً بأنه «ويسترن ميكانيكي» (وكلمة «ويسترن» تشير إلى أفلام رعاة البقر في الغرب الأميركي) حيث حلت القاطرات محل الأحصنة والوجه الخشبي محل الوجوه التي كانت اعتادت أن تغالي في تعبيرها. > ويُعتبر فرانسيس «باستر» كيتون، إلى جانب تشارلي شابلن والأخوة ماركس، كما أسلفنا، أبرز العلامات في السينما الهزلية الأميركية التي قامت دائماً على المطاردات والشخصيات الطيبة التي لا تلقى إلا الظلم من الآخرين، لكنها تعرف كيف تنتصر في النهاية بحيلتها ويقينها من صواب موقفها. وكيتون الذي كان ممثلاً وكاتباً ومخرجاً، ولد في كانساس العام 1895، ومات في هوليوود في العام 1966. وهو بدأ عمله ممثلاً منذ العام 1917، حين كان لا يزال يافعاً، ومثّل في العشرات من الأفلام القصيرة. أما لحظات مجده الكبرى فقد بدأت مع سلسلة «ماليك» التي بدأها في العام 1920 وضمت 21 فيلماً قصيراً. وهو اتبعها بين 1923 و1935 بأفلامه الطويلة التي كان «ميكانو الجنرال» أبرزها، ومن بينها «شرلوك الصغير» و «المصوّر» و «الكومبارس» و «المخرج» (وكلها جعل السينما موضوعاً لها) ثم «الإطفائي العاشق».
مشاركة :