أقحم الإنسان المعاصر رغم أنفه في دوامة الاستهلاك التي سلبته بصيرته، ورفعت من وتيرة لهفته للشراء، وأصابته بحالة إدمانية مرضية تجعله يشبع ولا يرتاح، بل كلما تخيّل أنه شبع كبر جوعه أكثر للاستهلاك.ويصبح الاستهلاك إدمانًا بالمعنى المرضي للكلمة عندما تتجاوز محاولة إشباع الرغبات عتبة الضروريات إلى الرغبة في الوصول لقمة الثانويات، وتعود أسس ذلك للثورة الصناعية مع ظهور الفائض عن الحاجة، ورغبة الرأسمال في تسويق الأخير بكل الوسائل المتاحة، ومع القرون تطور منطق التصنيع من تسويق الفائض عن الحاجة إلى تصنيع ما ليس ضروريًا البتة، وإيهام البشر بأن هذا اللا ضروري هو الأهم للمستهلك، وبموازاة تطور التصنيع تطورت آليات التسويق لتستهدف اللا شعور في المقام الأول، وشحنه بكل ما يُسلب الإنسان ملكة التفكير، وتسقطه في حبالها عن طريق تقنيات إيحائية معقدة تحاكي التنويم المغناطيسي، يتوهم الإنسان فيها حرية القرار، لكنه في العمق مسلوب الإرادة تمامًا، وتفرض عليه مُستهلكات هو في غنى عنها في الحقيقة، لكنه يتهيّأ له بأنه في حاجة ملحّة لها، ليس بالضرورة لكي يعيش، بل ليشابه الآخرين أو ينافسهم، مقاومة منه للشعور بالدونية، والإحساس الوهمي بالتفوق، أي بناء هوية مصطنعة قشورية، يهمها نظرة الغير وليس الرضا الذاتي عن النفس، وتجعل المدمن مهووسًا بكل ما هو جديد، وأن يكون أول مَن يقتنيه؛ لأن ذلك السبق يجعله يشعر بأنه استثنائي ويغذي فيه وهْم الانتماء للنخبة.ككل أنواع الإدمان، فالإدمان الاستهلاكي له عواقبه الوخيمة من زيادة القلق والضغط النفسي الذي يفضي للكآبة، مع تعميق حدة التنافس الصراعي وتعميق الصراع الطبقي، الذي قد يصل لارتكاب الجرائم واللجوء للاحتيال وانعدام الأمان، وإن إطلاق صيحة التحذير ضد هذا الإدمان هو بمثابة رفع الكرت الأحمر لاستعادة توازننا وهدوئنا النفسي، وتخليص ذواتنا من أقوى استعمار فرض على عقولنا وسلوكنا ونمط حياتنا.
مشاركة :