فرقة "صوت العقل" تستعيد جنون يوسف إدريس

  • 8/16/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بعد مرور أكثر من نصف قرن من الزمان على كتابة يوسف إدريس مسرحيته الثورية “المهزلة الأرضية”، ارتأى المسرحيون الجدد أن أحوال المجتمع المصري وملابسات الواقع الراهن لم تتغير إلى الأفضل، ولا يزال الإنسان أسير سلبيته وأنانيته ونزعته المادية ورضوخه للسلطة، الأمر الذي أغرى شباب المسرحيين بإعادة تقديم النص المتمرد مرة أخرى بمعالجة جديدة في عرض جماهيري شهدته القاهرة للمرة الأولى تساؤلات وإشكالات كثيرة تطرحها مسرحية “المهزلة الأرضية” في عرضها الجماهيري الأول على مسرح ساقية الصاوي في القاهرة مساء الاثنين (13 أغسطس)، فهي مسرحية القيم الإنسانية النبيلة والطموحات التي لا تتبدل ولا تبلى على مر الزمان، ولا يتوقف البشر عن المناداة بها جيلًا بعد جيل. حملت المعالجة الجديدة بصمات المسرحي يوسف فؤاد (الدراماتورج والإخراج)، وانطلقت بالتزامن مع الذكرى الـ27 لرحيل الأديب المصري يوسف إدريس (مايو 1927-أغسطس 1991)، الذي صدرت مسرحيته مطبوعة في عام 1966 عن سلسلة “مجلة المسرح”. محاكمة الواقع نجحت فرقة “صوت العقل”، التي قدمت المسرحية بعناصر من الشباب، في استدعاء صوت الجنون الذي زرعه يوسف إدريس في ثنايا نصه الجريء، فهناك مساءلة على طول الخط للإنسان والمجتمع، ومحاكمة للواقع المختل، وهناك ثورة على النظام السائد من جانب المجانين، الذين يتضح لاحقا أنهم العقلاء الحقيقيون، فالحياة دون تغيير تعني الموت. جاء المشهد الافتتاحي للعرض ممهدا للأفكار التي يثيرها، بمصاحبة موسيقى محمد عمار ومحمود أبوزيد المعبرّة عن التوتر من خلال الوتريات والغيتارات المؤثرة، يتحرك مجموعة الممثلين قبل بدء الحوار في فزع بسبب وجود شخص يهددهم بمسدس في يده، ثم يصطفون جميعا وفق الأداء الحركي الذي صممه يوسف علي ببراعة خاضعين للشخص المسلح تماما بعدما يشهر مسدسه في وجوههم. يتقصى العرض أزمات الإنسان وقضاياه الملحة في مجتمع محكوم بالقوة والقهر، فالواقع صار كابوسيا، جراء رضوخ البشر للسلطة، واتصافهم بالسلبية والرضا بالوضع القائم، فضلا عن أنانيتهم وانتهازيتهم، ونزوعهم إلى المادية. العرض المستمد من نص ليوسف إدريس يتقصى أزمات الإنسان وقضاياه الملحة في مجتمع محكوم بالقوة والقهر دمج المخرج يوسف فؤاد فصول مسرحية يوسف إدريس الأربعة في فصل واحد مطوّل بديكور لم يتغير، صممه محمد خلف بدقة لعيادة طبية حديثة مجهزة، حيث تدور الأحداث كلها في هذه المصحة النفسية التي يرتادها ثلاثة أشقاء (محمد الأول، محمد الثاني، محمد الثالث)، كي يعرضوا حالتهم على الطبيب النفسي المختص. من خلال دوائر الإضاءة واللعب بترددات الأنوار والظلال التي نسجها محمد عبدالوارث، ينصب المخرج يوسف فؤاد لجمهور “المهزلة الأرضية” شركا للإثارة والغموض، فالخلاصة أنه “لا أحد ضامن حاجة، ولا أحد فاهم حاجة، ولا أحد أصلا حاجة”، فكل الأمور نسبية، وعدم حدوث تغير على أرض الواقع يعني انتفاء الزمن وفق نظرية البعد الرابع لأينشتاين. يقدم الشقيق الأكبر “محمد الأول” شقيقه الأصغر “محمد الثالث” للطبيب بوصفه مجنونا يحتاج إلى علاج، بعدما زاد اضطرابه وهياجه، وتعددت محاولات انتحاره واعتدائه على زوجته. ويأتي الأخ الأوسط “محمد الثاني” لينفي هذه الرواية أمام الطبيب، مؤكدا أنها حيلة من الأخ الأكبر من أجل تعيينه وصيا على الأخ الأصغر وسرقة أرضه. يلجأ الطبيب إلى فحص الأخ الأصغر من أجل محاولة اكتشاف الحقيقة، فتزيد الأمور تعقيدا، إذ يأتي الأخ الثالث برواية ثالثة، وينفي أنه متزوج أصلا، ويلقي باللوم على أمه التي بددت ثروة أبيه بعد زواجها من رجل غريب. وبدورها، تنكر الأم هذه الرواية، وهكذا تتلاشى الحقيقة المطلقة تدريجيا، ويدخل الطبيب نفسه دائرة الفقدان والمتاهة في مشاهد ضاحكة متتالية. وعبر الصراع الشيق بين ثنائيات: المطلق والنسبي، الحقيقة والخيال، العقل والجنون، يتكشف أن المجانين من وجهة نظر المجتمع هم العقلاء الحقيقيون، وهم قادة التمرد والثورة، القادرون دائما على إحداث حراك من أجل تغيير الواقع إلى الأفضل. ودون هذه الانتفاضة المأمولة، فإن الحياة الجامدة مجرد صورة للموت الأسود. الروح الثورية ينتصر العرض للجنون بالمعنى الإيجابي للحالة، فالمجنون هو الثوري المقتحم الذي يرى كل الناس بؤساء لأنهم مستسلمون خانعون، رافضون للمقاومة، ومأساة هذا المجنون أنه يرى وحده ما لا يراه غيره، وهذا الأمر قد يكون أسوأ من العمى “الشمس بتطلع كل يوم.. وده بيضايقني. الناس تصحى والدوشة تبتدي والخلافات والخناقات، والكذب يشتغل والسرقة والظلم والبوليس والنيابة والمحاكم، وتتفتح السجون”. المسرحية تطلق صوت الجنون عاليا منتقدة الواقع الكابوسي وداعية إلى التغيير من خلال معالجة جديدة لنص متمرد “هل هناك أمل؟”، هذا هو السؤال المحوري الذي يجيب عنه “محمد الثالث” (المجنون)، في حديثه مع الطبيب الذي سأله عن أيام الأسبوع، فقال محمد ما معناه أن اليوم هو السبت، والغد هو السبت أيضا، ولن يأتي الأحد أبدا قبل أن نستشعر الاختلاف عن الأمس: “لما نحس إن الدنيا اتقدمت بينا خطوة، لما عدالة النهارده تبقى أكتر من عدالة إمبارح، لما نحس إن ظلم النهارده أقل بكتير من ظلم إمبارح، لما نحاسب المسؤول وهو لسه مسؤول، لما نحس إننا اتقدمنا خطوة أو اترقينا سَنْتي.. ييجي الأحد يا دكتور”. ساعد الحوار المشغول بالعامية المصرية البسيطة الممثلين على الأداء اللفظي بسلاسة وتلقائية، مع مساحات جيدة للحركة والتعبير الجسدي وتلويحات الأيدي والإشارات والإيماءات والنظرات وقسمات الوجوه. ولم يخرج الحوار كثيرا عن النص الأصلي ليوسف إدريس، وإن خضع للتكثيف، وأضيفت إليه بعض العبارات والقفشات العصرية المقحمة، منها ذلك التندر على “جهاز الموبايل المصري”، الموحي بتهالك المنجز الآني على كافة المستويات. وقد أضيفت إلى العرض كذلك بعض الاستعراضات الحركية الدالة، مصحوبة بأغنيات الشيخ إمام الحماسية المحرّكة للهمم والعزائم والاستبصار “إذا الشمس غرقت في بحر الغمام، ومدت على الدنيا مـوجة ظلام.. يا ساير يا دايــر يا أبوالمفهومية، ما فيش لك دليـل غير عيون الكلام”. وعلى الرغم من أدائهم المقنع المقبول، لم يظهر أبطال العرض عبدالله نصر، وعماد علي، ومحمد الأجاوي، وعمرو عزالدين، ومحمود حافظ، وأسماء الشعراوي، وغيرهم، قدرات خاصة على التقمص وامتلاك نواصي الشخصيات المركبة الصعبة، حيث لم تكن النقلات الانفعالية لافتة بما يتسق مع الحوار المشحون بالمتناقضات والتأرجحات الفجائية اللامعة.

مشاركة :