هويةُ العقل في العاطفةِ الأدبية

  • 8/18/2018
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

لا سمو يرفع الكلمة ويقيِمُ القيمة فيها في العمل الأدبي إلا ذلك النظم الذي يتخذ من المذهب الكلاسيكي منهاجاً لها، ليعبر بالعمل الواعي وزنها والتفكير المعتدل قوة كيانها وبالاعتماد على العواطف العامة ليصيغ وجدانها، وذلك لأن المزاوجة بين الفكر والخيال هو الكيان القوي الذي يميز العمل الأدبي الرصين المعتدل. ولا يشك عاقل في أن العاطفة عنصر هام من عناصر أي عمل أدبي، بالاضافة إلى الخيال مروراً بالفكرة والأسلوب، بل وأن وجودها في كل عمل أدبي شرط لازم لا غنى عنها ولا سبيل دونها. ولكن تبقى العاطفة المتزنة هي التي يؤثرها النقاد ويطلبونها، بعكس العاطفة المائعة التي لا تستطيع أن تتماسك حتى يصل بها الحال إلى جمود التفكير واضعاف التصور وضياع الحس المتزن. فإن العاطفة الطبيعية ثابتة غير متسرعة، لاعتمادها على الاحساس الطبيعي، بعيدة عن الهيجان العاطفي غير الواقعي والذي لا يشعر به إلا من فقد عقله ومات تدبره وتضاعف اسلوبه وتحادرت لغته. ولأن المذهب الكلاسيكي هو أول مذهب أدبي نشأ في أوروبا في القرن السادس عشر بعد حركة البعث العلمي، وتجلى هذا المذهب الأدبي في بعث الأداب اليونانية القديمة ومحاولة محاكاته، لما فيها من خصائص فنية وقيم إنسانية، بحث العلماء هذه الآثار القديمة ليستنبطوا مبادئها وسبب استمرار عظمتها، عبر استعانتهم بما كتبه المنظرون القدماء أمثال ارسطو في كتابيه «الشعر» و«الخطابه» وهوارس في قصيدته «فن الشعر». إن المياعة في الأدب كالمياعة في الفن، فعندما ترى صورة ضوئية وأخرى بريشة فنان ترى روحه فيها، وتعرف تذوقه الفني في نقل تلك الصورة باحساسه، بعكس ذلك الذي يضيف لها الخيال المسرف فيحولها الى لوحة غامضة بعيدة عن الفهم المتزن الطبيعي، وتجعلك لا تفهم معنى حقيقة نظرته لفنه. وإننا نجد إن خلود العمل الإبداعي في الأدب يكمن في حقيقة نقل المشاعر البعيدة عن التكلف والأوهام، بتصوير المشاعر الطبيعية والإرهاصات المعروفة من دون مبالغة تصل بالتصور الى السذاجة في التفكير، وتوقف عجلة العقل في الإبداع والتصوير. ولأن الأدب فن والفن يأبى أن يكون مبتذلاً ورخيصاً، ومائعاً ومريضاً، يجب أن يحيا بعقل من اهتم به واعتمد نظمه بما يقرأه في نفوس الناس واحاسيسهم، ولا يصور الخيال المفرط المشلول عن التفكير البعيد عن حقيقتهم. بل ويذهب الفيلسوف الإيطالي (بينيدتو كروتشه) إلى ابعد من ذلك ليقول إن التعبير العاطفي ليس من الشعر في شيء، لان ميزته التأوه والتنهد والمبالغة والغلو العاطفي، حتى وصل به الحال إلى ابعد من ذلك لينفي العاطفة نفسها بقوله «لا يمكن للشعر أن ينقل العاطفة أو يقلدها، لأن العاطفة تشويش واضطراب، والفن نظام وشكل». وبعيداً عن (كروتشه) المسرف في إظهار العقل في العمل الأدبي، نستطيع أن نقيم العمل الأدبي الرصين بما قيمه رواد الأدب الكلاسيكي اللذين حددوا منهاجهم الرصين بعناصر ثابتة أولها الاعتماد على العمل الواعي المتزن، وثانيا الاعتماد على مبادئ العقل وتجنب الإسراف العاطفي، والحرص على جودة الصياغة والامعان في اتقان صنعه لتتم فصاحته، والأهم من كل ذلك محاكاة القدامى وتقليدهم واحياء تراثهم. فالأدب الكلاسيكي إبداع لا يشيخ وفنٌ لا يموت، وهذا ما خلد الاعمال الرصينة في تراثنا العربي والتي لا تقاس بأعمال أخرى بل وهي الحكم لمعرفة البلاغة والفصاحة والقيمة اللغوية، من معلقات الجاهلية، و«ألف ليلة وليله» و«كليلة ودمنة» لابن المقفع، إلى رسائل الجاحظ و«الأغاني» لابي الفرج الأصفهاني، وصولا لـ «العقد الفريد» لابن عبد ربه في العصر الأندلسي وغيرهم. وهذا ما جعل رواد مدرسة الأحياء والبعث يدركون أهمية النهوض بالأدب الكلاسيكي، ليبنوا بالمنهج القديم أوزانهم ويجددون بقوه رصانته ابياتهم، فاحيوا التراث بعد الجمود الذي اصابه من سقوط بغداد على يد التتار الذين قضوا على الخلافة العباسية وهدموا دور العلم فيها، وألقوا آلاف المخطوطات في الأنهار، واضاف رواد هذه المدرسة أغراضا حديثة كالمواضيع الوطنية والاجتماعية دون الخروج عن المنهج الذي اتخذوه سبيلا لايصال افكارهم وحكمتهم ومواعظهم. أما الأعمال المسرفة في العواطف الغارقة في الخيال، الساذجة في التأثر والانفعال، بقت ميتة لا حياة لواقع فيها ولا سبيل لاستمرار القيمة منها، فهي بعيدة عن الواقع، معدومة الموعظة والمنافع.

مشاركة :