العبث في معاني اللغة يتمحور حول كل ما لا فائدة فيه، لا معنى له، او تصرف بطيش.. والجرجاني يعرّف العبث بأنه ارتكاب أمر غير معلوم الفائدة، او هو مخالف المفروض، أما قاموس لاروس فهو يفسرالعبث بأنه اللامعقول، او الشيء المنافي للعقل، أما معجم Petit Robert فقد عرّف العبث بأنه كل ما يخالف الصواب، او الشيء الشاذ، الأخرق، الغريب، السخيف والأبلة.. العبث في الفلسفة الوجودية هو ما لا يمكن تفسيره، وما لا يمكن تبريره، وما يخلو من الإرادات، يمكن ان نخلص وبكل ثقة بأن كل التفسيرات تسير في نفس الاتجاه، حتى مسرح العبث اذا طرقنا بابه سنجد للعبث عدة تسميات، مسرح اللامعقول، وسمَّاه البعض بمسرح الكوميديا السوداء، وهناك من أطلق عليه المسرح المثير للأسى، واللائحة بتسميات العبث طويلة، وما تلك نماذج منها وكلها تصب في معنى ينتهي بالفشل الحتمي، او ما ليس معقولاً او متناسقاً او منسجماً مع اي شيء..! لماذا نتحدث عن العبث..؟ ربما لأننا أصبحنا نشهد جرعات مكثفة من صور شتى مما يدخل في تصنيف العبث، وربما لأننا وجدنا عابثين بكل المستويات وفي كل المجالات ومن كل الأطياف و«الأجناس»، ومنهم من باتوا أصحاب خبرة وتخصص في العبث، يمارسون ويصممون ويهندسون لكل أنواع العبث، في الأفكار والسلوكيات والممارسات والأهداف لدرجة ان العبث أصبح يزداد قوةً ورسوخاً على حساب الوطن والناس، وأصبح بالنسبة لكثيرين ممن يمارسونه سوقاً سوداء للتداول والتنافس على المصالح والأهواء، ربما لكل تلك الأسباب وغيرها نتحدث عن العبث.. أخطر أنواع العبث ذلك الذي يستظل أصحابه بعناوين الدين او المصلحة العامة او الوطن والوطنية فيما هم يرتكبون الحماقات تلو الحماقات وان تلفعت بالصمت والإنكار او التبرير أحياناً، ومن يمعن في واقع الحال يشعر ان هناك من يريد لنا ان نعيش في بلد يستطيب الناس فيه استعادة مشكلاتهم بطريقة مفزعة، يتهرب كل منا من مسؤولياته، نتعايش ونتقبل مع الخيبات والشكوك والصدمات، وننسى او نتناسى ان العلة فينا جميعاً وبالتساوي، ونتجاهل انها تزداد تفاقماً كلما ألقينا تبعاتها على الآخر، او على المجهول، او على القدر ورفضنا الاعتراف بالعلة او العلل التي أصابتنا..! كم هو بالغ السوء في هذا المشهد حين نجد بعض ممن يفترض فيهم ان يكونوا حائط سد يحول دون أي عبث، توهمنا بامكانية التعويل عليهم في الحيلولة دون جعل صور العبث أكثر من ان تحصى، فيما هم على صعيد الواقع أحد منابعه، او من قوى العبث او كسور منه، هذا العبث يتجلى في مظاهر كثيرة رغم ان منها ما قد يبدو بالنسبة للبعض ناصع البياض في المنطلقات والأهداف الظاهرية، فيما هي عكس ذلك تماماً..! عبث حين تصبح الخلافات والتباينات والرؤى بين بعض الأطراف في مؤسسات رسمية وأهلية أكثر فائدة لمصالحهم من التفاهم فيما بينهم، ولا تعود «هواية» الخلاف مجرد دفاع الواحد عن مصالحه تجاه الآخر، بل تشكل تمويهاً للتناقضات او احترافاً لتأمين تلك المصالح على حساب المصلحة العامة، وعبث ان يظل الحوار معطلاً بشأن العديد من المشكلات وقضايا المجتمع وتظل المراوحة حولها عبر شعارات سئمها الناس، وعبث ان نتحدث عن الإصلاح ونطالب بالإصلاح، ولكن على أرض الواقع نصدم بفهم البعض للإصلاح، وهو فهم لا يخرج عن حدود الشعارات والوعود، او في أحسن الأحوال إجراء مناقلات واستحداث مناصب وعمليات تجميل لا تغير من واقع الحال شيئاً، وعبث حين لا يؤخذ بالاعتبار تداعيات إرهاق المواطنين مهدودي الدخل بالمزيد من الضرائب والرسوم التى تنزل عليهم كالصواعق وهم الذين يطاردون لقمة العيش بشق الأنفس، وعبث ان نجد اليوم من يرفض شعارات وجهود بحرنة الوظائف والأعمال بذريعة ان التوطين لا يشجع الاستثمار ولا يحفز المستثمرين، وعبث حين يشاح النظر عن الهوة التي تزداد اتساعاً بين القول والفعل، بين الشعارات والكلام الجميل المنمق الذي لا يقدم ولا يؤخر، وعبث حين يأتي البرلمان القادم نسخة مكررة من البرلمان الراحل..! صور العبث كثيرة أحسب أننا نعجز عن حصرها، يا ترى متى نتخلص من كل ذلك العبث، او هل يمكننا حقاً ان نتخلص من كل ذلك العبث، والسؤال بصيغة أخرى هل نمتلك الجدية والإرادة لمواجهة كل أنواع العبث..؟!!
مشاركة :