كفاك اغترابا أيها العراقي النبيل

  • 2/22/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لا يمكن لعراقي صميم مثل حميد سعيد أن يتحمل مزيداً من عذابات هذه الغربة بعيداً عن مدينته الحلة وداره في بغداد، حتى إذا كان مغتربه قريباً في عمان العربية الأردنية. أقول ذلك وأنا أكاد ألمح عيني أبي بادية في هذه الصورة وهما تنظران من على ذلك الرصيف العماني إلى بيته ببغداد وأصدقائه في مقهى الشابندر ومحبيه في شارع المتنبي، ومعارفه في المحافظات العراقية كلها، تنظران بطريقة ليس بوسع قصيدة أن تعبر عنها، ولا بوسع صرخة مكتومة ومعتقة من سنوات الحنين والقهر أن تفصح عنها. لا بد لأبي بادية من العودة إلى أهله وأصدقائه ومحبيه. ليس هناك في ظني ما يمنع من ذلك أبداً. ولئن كانت كبرياء الرجل وموقفه السياسي المختلف قد أجًلا هذه العودة أو وقفا دونها حيناً طويلاً من الدهر، فإن الوقت قد حان الآن لاتخاذ قرار العودة السريع هذا من دون انتظار إذن من أحد. فأغلب الذين يحكمون الآن في بغداد لا يفكرون ببعض أبنائها الشرفاء القريبين منهم، فكيف بالبعيدين الذين نجوا بأنفسهم من الفوضى ومن سوء الفهم المتفشي أيام الاحتلال وما ولاها من شهور وسنين؟! تكفي مثل هؤلاء مصالحهم ومفاسدهم، التي زكمت الأنوف من الاهتمام بغيرهم، ولا يشرف رجلاً مثل حميد سعيد أن يتلقى، بعد هذه السنوات العجاف كلها دعوة أو إذنا بهذه العودة من أمثال هؤلاء. ولئن كان الوطن قبل ذلك ملكاً للحاكم يمنع عنه بإرادته من يشاء ويقبل من يشاء وفقاً لأجندات سياسية وعقائدية مرفوضة، فإن الصورة قد تغيرت الآن ولم يعد هناك، غالباً، غير الفاسدين الذين لا يعرفون غير مصالحم الشخصية المباشرة التي لا أظن أن لها كبير علاقة بوطن ووطنية، ولا حتى بفكر وعقيدة وسياسة صحيحة أو خاطئة. ولست أشك أن شاعراً وإنساناً مثل حميد سعيد سيرتضي أن يكون بعيداً عن فقراء الوطن ومقاتليه الشجعان الذين تصدوا بصدورهم للإرهاب والفساد والجريمة المنظمة. لا أستطيع أن أتحدث هنا عن آخرين كثيرين غير حميد سعيد ممن صارت الغربة لهم وطناً غير وطنهم العراق حتى صار البعد عن الغربة عندهم هو الغربة، على حد تعبير أبي حيان التوحيدي في الإشارات الإلهية ، أو عن أولئك الذين عاشوا في بلدان أخرى واكتسبوا جنسياتها هم وأبناؤهم وأصبح العراق بالنسبة اليهم موطن أهل بعيدين وذكريات حلوة ومرة . فحميد لم يضطر لمغادرة العراق إلا متأخرا. وارتباطه بالنظام السابق واحتلاله لوظيفة رفيعة في مؤسسته الثقافية لا يعني مصادرة لمنجزه الشعري ولا لمواقفه الإنسانية ولا لموقفه الخاص المختلف، بهذا القدر أو ذاك، عن مواقف النظام وتصوراته. ومن يعرف حميد سعيد معرفة مدققة يستطيع أن يعرف الكثير من هذه المواقف والتصورات. وما كان يقال ويشاع عن الرجل في الظاهر لا يعبر دائماً عن حقيقة مواقفه وقناعاته الداخلية الخاصة، والتي يمكن التعرف على بعضها في شعره. نقول ذلك من دون أن يكون في وهمنا تبييض صفحة الرجل أو التنكر لمواقف وأفعال وممارسات يمكن الاختلاف حولها والجدل بشأن بعضها. وهو يذكر فيما أظن كيف أنني، قبل سنوات، قد عتبت عليه في تعليق لي بجلسة شعرية عامة عقدت للاحتفاء به في مسقط بسلطنة عمان لأنه لم يعد إلى بغداد. وإذا كان كلامي قد ولّد لديه، آنذاك، شيئاً من اللبس وسوء الفهم فإنني أدعوه الآن دعوة صريحة للتفكير بهذه العودة بصفة جدية، مثلما أدعو الشرفاء من المثقفين العراقيين لتبني مثل هذه الدعوة لعودة حميد سعيد وكل شعرائنا ورموزنا الوطنية، التي ملت الانتظار على أرصفة الغربة. ولعنة الله على السياسة والسياسيين الذين يفرقون بين أبناء الوطن الواحد من الشرفاء شعراء ومثقفين حقيقيين، أو مواطنين عاديين.

مشاركة :