مناهج التعليم والعمارة المدرسية صنوان

  • 8/22/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كان لتصور الطفولة في أذهان الراشدين أثر مباشر في المناهج التربوية وعمارة المدارس وأشكالها. فإلى منتصف القرن الثامن عشر حُمل الأولاد والبنات على راشدين وإنما من مقاس صغير. وأشاع جون لوك وصفهم بأنهم أوراق بيض في مستطاع الأهل والمربين خط المعرفة والأخلاق عليها. ورأت الرومنطيقية الطفل على شاكلة مخلوق بريء وطيب بسليقته وتواق إلى التعلم. وتروي روايتا لويزا ماي ألكوت (1888-1832)، «حلم جو مارش» و «عائلة جو مارش الكبيرة» حوادث إطارها مدرسة داخلية في بلومفيلد تديرها جو مارش وزوجها، وتستلهم أفكار رالف والدو إيميرسون وصديقه برونسون ألكوت، والد لويزا. وكان برونسون ألكوت أشرف على إدارة مدرسة خارجية في بوسطن، بعض الوقت، وأعمل فيها معاييره النظرية والمنهجية. ومبدأ بلومفيلد، في الروايتين، أن الأطفال كلهم يتمتعون بفطرة صالحة، وقابلون إذا أحسنت تنشئتهم وأدبوا على احترام حاجاتهم الفردية (إلى قيامهم بأكبر قدر ممكن من التمارين وتنشقهم الهواء النظيف وتلقينهم دروساً في الأخلاق)، أن يصبحوا مواطني ديموقراطية قويمة. وتشبه مدرسة بلومفيلد، في وسط البساتين والغابات، دارةً عائلية مريحة. ويعنى الأطفال فيها بمزارع من قطع أرض صغيرة، ويتعهدون حيوانات أليفة. ويخرجون غالباً في نزهات للترويح والتعلم. ويرى أثر أفكار الشاعر وعالم النباتات هنري ديفيد ثورو في المنهج التربوي هذا. ومن المحاولات الرومنطيقية الأخرى في سبيل تغيير المدارس الابتدائية التقليدية وإصلاح طريقة عملها، المحاولة التي اضطلعت بها حركة والدورف. ونشأت هذه الحركة في 1919، بأوروبا، واستلهمت جزئياً أفكار روولف شتاينر، وسعت في إبراز فرادة الHطفال وتحرير مخيلتهم سعيها في تصور عمارة مدرسية جميلة. ومدارس هذه الحركة مبان ملتوية ومتداخلة تشبه تارة شققاً ريفية في جبال الألب، وتارة ثانية منازل شيدت في بلاد السحرة والجن. وتشجع مدارس (ماريا) مونتيسوري، وهي كذلك شيدت في أوائل القرن العشرين، على التعلم الذاتي والنشاط البدني، وتشدد على مكانة علاقة الطفل بالطبيعة. ويسمي أعضاء الفريق التربوي أحياناً باسم «الأدلة» (ج دليل أو مرشد). ومباني المدرسة تشبه دوراً فسيحة ومريحة تحوطها الأشجار والنباتات. وتمتلئ الصفوف بعينات من الطبيعة- من نمل ودجاج وفئران بيض- وتغطي الجدران رسوم الأولاد وتصاويرهم. ونشأت حركة أوروبية أخرى قريبة، في العقد الثالث والعقد الرابع من القرن العشرين، هي حركة المدرسة في الهواء الطلق، وركنها استحسان قضاء التلامذة معظم وقتهم خارج غرف الضيوف. ويلاحظ يان غرو سفينير وكاترين بورك (في كتابهما «سكول»، «المدرسة») أن معظم المدارس التي أنشئت على هذا المثال استقبلت أولاداً مصابين بداء السل أو معرضين للإصابة به. فهي النظير الابتدائي للمصح الذي تناوله توماس مان في روايته «الجيل المسحور». وجدران هذه المدارس كانت غالباً ألواحاً منزلقة من زجاج، على نحو يؤدي إلى فتح الصفوف، من جهة واحدة على الأقل، على الخارج. وترتب على النظرة الرومنطيقية والتقدمية إلى الطفل تشييد غرف صفوف قليلة عدد التلامذة، وتوظيف مدرسين متحمسين، وتوفير بيئة صحية ومريحة. ولهذه المواصفات ثمن أبهظ تكلفة التربية التقدمية في الولايات المتحدة وأوروبا، وجعلها حكراً على أولاد الطبقات الميسورة. وفي أواخر ستينات القرن العشرين وأوائل العقد التالي، كان لحركة تربوية جديدة، حركة «الصف المشرّع» (أو المفتوح)، أثر قوي في تصور المدارس. وأحد النصوص الأساسية لهذا التصور هو «الصف المشرّع» (1969) الذي كتبه هربت آر كول (KOHL). ووجه كول نقده إلى بنيان الإنشاءات المدرسية المرتبي، وحضه التلامذة، علانية أو ضمناً، على الاستخذاء (الخضوع) أمام السلطة والتخلي عن حرية الفكر. ففي هذا الصنف من الأبنية المدرسية، ومن المناهج المناسبة، يتعلم التلامذة أولاً «السكوت عما يفكرون ويحسون» (هربرت آر كول). ويهجس المعلمون بـ»المراقبة» أو «النظارة» على تدريسهم، وفي مجالس الصفوف يُعامل التلامذة معاملة عدو غير متوقع، عديم الاخلاق ويخشى شره». ويدعو كول إلى التخلي عن تصميم غرف التعليم التقليدي (صفوف من الطاولات في مقابل منبر المعلم المهيب واللوح الأسود)، وإلى اصطفاء شكل حلقات الكراسي والطاولات الصغيرة أو الضيقة. وتترك حرة فضاءات تستعمل لحاجات القراءة والكتابة والمناقشة، والأنشطة الأخرى. وينصح بوضع المنبر في زاوية من الصف، ويترك التلامذة يختارون محل الجلوس بدلاً من إلزامهم به. وعلى هذا، استعادت الثقافة المضادة الرومنطيقية وافتراضها أن الاطفال، والفتيان عموماً، مفطورون على الخير والعفوية وحرية الذهن، وليس من الحكمة إكراههم على أفعال أو أوضاع. ودعا غلاة هذا الرأي الى هدم الجدران بين الصفوف، وقبل وسطيوهم ومعتدلوهم بالاستعاضة عنها بفواصل متحركة. ويقترح روبيرت سومِّر، أحد دعاة إنشاء صفوف مدرسية من غير حواجز، في كتابه «العمارة المدرسية» (1983)، ترك «الصفوف الصلبة» وأرضيتها المرصوفة وأثاثها الرتيب وألوانها الرمادية وإضاءتها بالنيون، إلى «صفوف ناعمة» مؤثثة بالبُسط والسجاد، والمقاعد المنجدة أو المحشوة بالبلاستيك المرن، والمساند والطراحات الرخوة، والمضاءة بالمصابيح المظللة. وفي استقصاءات الرأي، يبدي الأساتذة والطلاب الجامعيون ميلهم إلى هذا الصنف من الأثاث الداخلي والعمارة، ويلاحظون أنه يتيح التواصل والشراكة. وعلى إثر هذه الاقتراحات، كثير من الصفوف المشرعة انتشرت في أرجائها البُسط والمتكآت ذات الألوان الزاهية على شاكلة حجرات العلاج النفسي الجماعي. ومن ميزات المدارس من غير حواجز، تقلص تكلفة البناء والتدفئة والتدبير، وجواز التصرف في الفسحات على ضوء ميول الاطفال وطاقاتهم المتنوعة. وفي وسع المدرسين الانتقال بيسر من حلقة تلامذة إلى أخرى. والأطفال من أعمار متفاوتة لا يسعهم الاشتراك في درس واحد من غير ضجر ولا إحباط، فإذا رغبوا افترشوا الأرض في جوار المدرس ومخاطبتهم بعضهم بعضاً في وقت واحد. ويتيح تنقل المدرسين للطفل ألا يجد نفسه مقيداً طوال سنة، بمدرسٍ غير مؤات (وهذا يُعكس). وفي مستطاع التلامذة الاكبر سناً العمل مع من هم اصغر سناً، ومزاولة ضرباً من الرعاية المفيدة. والمدرسة من هذا الصنف تمثيل واضح على أن التربية، والحياة من ورائها، مصدر متعة وتجربة تستحق الانصراف إليها، وبواسطتها يختبر المتعلم (التلميذ) وجوهاً من العلاقات بأشخاص من أعمار وطباع مختلفة. والمدرسة من غير حواجز، لا تخلو عند الاختبار من عيوب. فالأثاث الرخو والسجاد والتكايات أرخص ثمناً من الأثاث الصلب إلا أنها أسرع هلاكاً، والمحافظة على نظافتها ولياقتها أعلى تكلفة. ويرى مدرسون مجربون أن انضباط التلامذة في مدرسة من غير حواجز ليس بالأمر الذي يُحصل عليه بيسر. ورفع الجدران يعظم تماوج الصوت والصدى، ويلهي التلامذة والاساتذة. وتركيز الانتباه على جداول الضرب لا يسعف عليه الغناء على بعد أمتار أو قص القصص. ويشكو هذا النمط من المدارس النازع إلى إتخام العدد. فلا يقيده التزام بالمقاعد والطاولات المتوافرة. وعلى هذا، اضطرت المدارس منذ أواخر سبعينات القرن العشرين الى تقسيم فضائها المتصل والمشترك صفوفاً على حدة. ولكن التربية الجديدة أورثت التعليم العناية بإدخال الطبيعة، حيوانها ونباتها، إلى الصفوف، وإخراج التلامذة من الصفوف إلى الطبيعة أو الى المتاحف. والصفوف التي تنتظم فيها المقاعد والطاولات طوابير مرصوصة، اصبحت قليلة. ومعظم الصفوف الابتدائية في الولايات المتحدة مجهزة اليوم بطاولات ضيقة مستطيلة أو خماسية وسداسية الأضلاع. واختفت المقاعد من خشب السنديان من مدارس بريطانيا، وحل محلها طاولات وكراسٍ صنعت من البلاسيتك وانابيب الصلب. ويشترك تلامذة البلدين في الجلوس الى طاولات حولها 3 مقاعد أو 6، بينما يجول المدرس ويتنقل بين فريق وآخر. ويوحي هذا النمط من التشابك أن المنافسة بين مجموعات ينتظم فريق الواحدة منها أقرب إلى واقع الامور من المنافسة بين أفراد. ولا يحول بين الفريق الواحد وبين إعادة النظر في تشكيله ووظائف أفراده، حائل أو مانع. ويغلب مثال الفريق المتغير والمتكيف على العمل في الشركات الصناعية والمكتبية. والأماكن المتحركة التشكيل والعمل في إطار فريق مرن أمران نادران في المدارس المكتظة أو التي تشكو ضمور عدد العاملين فيها. فتشكيل الصف الثابت، حين تقتضي الحال ضبط 25 إلى 35 طفلاً متململاً، يسعف المدرس المرهق. ويقود هذا غالباً إلى تدريس المادة غيباً، وإلى امتحانات لا تختبر طاقة التلميذ بل تفيد عن مرتبة المدرسة بين المدارس. وفي الولايات المتحدة، يزين بعض الذي يحنون الى ماضٍ جميل، صورة مدرسة القرن التاسع عشر التقليدية. وفي أواخر العقد العاشر من القرن العشرين، جدد بناء 450 مدرسة قديمة في قرى صغيرة، كانت مدرستها صفاً واحداً، وطليت بدهان أحمر لامع لم تعهده المدرسة يوم كانت مكان تدريس. ونحت العمارة المدرسية، في الولايات المتحدة وبريطانيا، إلى إلغاء النوافذ، وتضييق المداخل ومراقبتها، وتحصين الجدران الخارجية، وتعميم الإضاءة الاصطناعية. وتعلل الإدارات الأميركية الأمر بحوادث القتل الجماعي الذي فشت في العقدين الاخيرين. ولكن هذه الإجراءات لم تكن ناجعة. وشاعت في بريطانيا على رغم أن مثل هذه الحوادث قليلة في المملكة المتحدة. وإن كانت المدرسة- القلعة أكثر أمناً أم أقل، فما تعلنه واحد: الخارج مصدر خطر! وأظهرت دراسات متفرقة أن الصفوف المنكفئة والموصدة تحمل التلامذة على الإحباط والدراسة على نشاط ممل ومنقطع. * روائية وجامعية أميركية، عن «ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس» الاميركية، 18/12/2008، إعداد منال نحاس

مشاركة :