رحيل حنا مينه... ربان الرواية السورية وصوت المقهورين

  • 8/22/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

هذه المرة لم يخيّب حنا مينه (1924- 2018) توقعات كثيرين ممن انتظروا طويلاً رحيله لنشر مقالاتهم الجاهزة. هذه المرة لم يكن خبر الرحيل إشاعة. أغمض صاحب «الثلج يأتي من النافذة» عينيه مثل ربانٍ عنيد عن أربعةٍ وتسعين عاماً، لطالما كان وفياً فيها لذكرى والده سليم ووالدته ميريانا، وفياً للحياة التي لوّحت شمسه باكراً، بعد أن عمل ككاتب رسائل وقارئ جرائد لأهل قريته في إسكندرونة، موطنه الذي نزح عنه لاحقاً عام 1939 بعد سلخ اللواء عن وطنه الأم سورية. كتب مينه أولى قصصه القصيرة لجريدة «صوت الشعب» بعد أن زاول مِهناً كثيرة: حمّالاً في مرفأ اللاذقية، وحلاّقاً، ثم اقتحم المعترك السياسي والنضال ضد المستعمر الفرنسي الذي رزح صاحب «الياطر» في معتقلاته، بعدما تقدم التظاهرات وترأس الحركات النقابية التي ساهم في تأسيسها، مختلطاً في زخم الكفاح ضد سلطة الإقطاعيين المتحالفين مع سلطة الانتداب. أجواء ستنعكس على أعماله الروائية، وأبرزها «نهاية رجل شجاع» التي أخرجها للتلفزيون السيناريست حسن م يوسف، والمخرج نجدت إسماعيل أنزور، فيما حوّل المخرج فهد ميري روايته «المصابيح الزرق» فيلماً سينمائياً لقي نجاحاً. توزعت رحلة هذا الروائي بين مدنٍ عدة، فمن اللاذقية إلى دمشق، ومنها إلى بيروت. ودفعته هذه الأسفار إلى اكتساب حساسية مختلفة في كتابة نصوصه التي اعتاد أن يفتتحها بعبارته الشهيرة: «لقلبكم الكريم أُصرّح». عبارة ظلت فاتحة لأرشيف هائل من المراحل السياسية والاجتماعية التي كان الكاتب شاهداً على أفول بعضها، وتقدم بعضها الآخر، لتلعب دوراً حاسماً في حياة بلاده، لا سيما بعد فراره من سورية إثر ملاحقة دولة الوحدة السورية - المصرية (1958 -1961) للشيوعيين. طوّف مينه في لبنان والصين وهنغاريا قبل أن تصدُر روايته الثانية «الشراع والعاصفة» (1966)، لتكون بمثابة افتتاحية لافتة لرجلٍ سيساهم في تأسيس تياره الأدبي بنفسه، منطلقاً من قراءاته الكثيفة، وثقته في ضرورة الرواية كفنّ يواجه الهمجية والقمع وكل ما من شأنه احتلال مصائر البشر وإخضاعهم. كان من أبرز مؤسسي رابطة الكتاب السوريين، ومن أهم الأصوات التي نادت بإبعاد مسطرة النقد عن قريحة المبدع. لم يُقرأ مينه كما يجب في سياق بعيد عن ثنائية «الأدب والأيديولوجية»، فظلت رواياته شبه مجهولة لدى حركة النقد الأدبي السوري، مع أنه ساهم في بلورة نظرة كلاسيكية لنصوصه ضمن ما يسمى أدب «الواقعية الاشتراكية»، ليكون بذلك نائياً عن رواية الحداثة التي شقت طريقها في ثمانينات أو تسعينات القرن الماضي. وسمي مينه بـ «أديب الشاطئ» لا «أديب البحر»، وقيل إن شخصياته الروائية هي عبارة عن بحّارة متقاعدين، يلوكون ذكرياتهم عن البحر، ولكن على رماله الآمنة من العواصف والمغامرات. لكنه سيكتب عن البحر تسع روايات، لعل أبرزها «الياطر» و «الشراع والعاصفة» التي نقلها غسان شميط إلى السينما، إضافة إلى روايات أخرى دخلت في تاريخ الفيلموغرافيا الوطنية، مثل «بقايا صور» لنبيل المالح، و «الشمس في يوم غائم» لمحمد شاهين. ولا ينسى قراؤه شخصياته الطريفة، بينها «الطروسي» و «زكريا المرسنلي» و «مفيد الوحش» و «دعبس الفتفوت» و «شكيبة» و «أزنيف» وسواها من الشخصيات التي كتب عبرها مينه جداريته الأبقى عن مخيلة جماعية حاول إنقاذها من الفناء والاندثار، مرات من مقهاه الأزرق في فندق «القصر» على بحر اللاذقية، ومرات من بيته في مساكن برزة الذي توفي فيه صباح أمس، تاركاً إرثاً كبيراً عن كفاح الإنسان ضد الفقر والإهمال. وكان مينه كتب عام 2008 وصيته التي جاء فيها: «لقد عمّرتُ طويلاً حتى صرت أخشى ألاَّ أموت، لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربتُ الشقاء. عندما ألفظ النفس الأخير، آمل بألا يُذاع خبر موتي في أي وسيلة إعلامية، وأعتذر للجميع، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي محمولاً على أكتاف أربعة مأجورين، فلا حزن، ولا بكاء، ولا لباس أسود، ولا تعازٍ ولا تأبين...».

مشاركة :