استقل الروائي الكبير حنّا مينة المركب الأخير، راحلاً عن عالمنا عن عمر ناهز 94 سنة أول من أمس، تاركاً خلفه بحراً من الروايات التي زاد عددها على الثلاثين، إضافة إلى القصص القصيرة، والتي تحول بعض نصوصها إلى مجموعة من أبرز الأعمال التلفزيونية، على رأسها «نهاية رجل شجاع»، و «المصابيح الزرق»، و «بقايا صور». شكلت هذه العناوين أمثلة التجربة الكاملة في المزاوجة بين الأدب الروائي والتلفزيون بما يعنيه الفارق بينهما، حيث يذهب القارئ إلى العالم الآخر الذي بناه الأديب بشخوصه الموجودة والمولودة والحية في أرضه التامة، لا الشخصيات المستدعاة من غير جميع التفاصيل لتعبر مسلسلاً يتكلم عن جزئيات مهما اتسعت تظل ناقصة. وجمعت هذه الأعمال الروا-تلفزيونية» قواسم مشتركة إلى جانب تأليف الراحل، أولها بيئة البحر التي كانت الـ «لوكايشن الأول» بتفاصيله الدقيقة، في انعكاس لحياته الخاصة، إذ ولد في عام 1924 في إحدى قرى لواء الاسكندرون على الساحل، ليعود بعد سلبها لمصلحة تركيا في عام 1939 مع عائلته إلى مدينة اللاذقية السورية، بما سيتركه الأمر من جرح وحقد ضد المستعمر لاحقاً في كتاباته. وعمل في بداية حياته حلاقاً وحمالاً في الميناء حيث كانت كتابته الأولى على الأكياس التي يرفعها على ظهره، ثم كبحار على السفن والمراكب. قال صاحب «الياطر» في أحد أحاديثه إن «البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمّداً؟ في الجواب أقول: في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر! أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت...». واختصت النصوص التلفزيونية المبنية على أعمال مينة، بسِمة الواقعية والنضال ضد المستعمر في أدبه، والتي انتقلت إلى الشاشة الصغيرة، وفق ما يحددها أرنست فيشر في كتاب «ضرورة الفن» بتحقيق شروط «تحليل الواقع ونقده من خلال عقيدة واضحة، في سبيل فهم جماعي لا فردي للظاهرة الاجتماعية»، والتأكيد على انهيار البنى التقليدية وعلى مظاهر الفساد والفقر والتخلف»، لا سيما أن مينة رأى أن الواقعية في الإبداع «تستوعب جميع المدارس الأدبية من الرمزية إلى التعبيرية إلى الأسطورية إلى غيرها». وفي هذا الإطار، دارت أحداث «بقايا صور» من سيناريو وحوار غسان جباعي وإخراج نجدة إسماعيل أنزور في عام 1999، حول أسرة مشردة وفقيرة تضطرها الظروف القاسية للهجرة إلى الريف السوري أثر الاحتلال الفرنسي وذلك من أجل البقاء. وتناول مسلسل «المصابيح الزرق» في عام 2012، من سيناريو وحوار محمود عبد الكريم وإخراج فهد ميري، فترة الكفاح السوري ضد الاحتلال الفرنسي من خلال استعراض الأحداث الجارية في الفترة الممتدة من عام 1939 إلى عام 1945، بإلقاء الضوء على شخصيات عدة وعلاقاتهم الاجتماعية والسياسية. أما العمل الأبرز «نهاية رجل شجاع» من إخراج أنزور في عام 1994، فاستطاع أن يعيد للدراما السورية جمهورها المفقود بعد «غوار»، وتحقيق نقلة نوعية فيها شكلّت انطلاقة تألقها منذ تسعينات القرن العشرين. وعالج العمل قصة «مفيد الوحش»، ابن القرية الريفي البسيط و «القبضاي» الذي شحذته الحياة البسيطة والقاسية فجعلت منه شخصاً قاسي الملامح حاد النظرة، لتتطور شخصيته من عامل في الميناء باتجاه تصاعدي ضمن المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي، فيتحول الفتى إلى أسطورة ليتغنى الجميع بقوته ومروءته. وأظهر «نهاية رجل شجاع» في شكل خاص، مرونة مينة بالتعاطي مع «عملية تلفزة أدبه»، إذ لم يسقط قداسة على كلماته ولا شخصياته. مثلاً، حوّل السيناريست حسن م. يوسف شخصية «لبيبة» من مومس في الرواية، إلى خادمة جاعلاً إياها كامرأة شريكاً كاملاً لـ «مفيد» في المسلسل. على الأرجح لن يكون العالم العربي أميناً لوصية حنّا مينة، بل سيسير في جنازته تحت شراع الرحيل الذي لا يترك شواطئه حتى في الغياب، إذ جاء في وصية الراحل التي خطّها في عام 2008: «عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي (...) طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاصٍ مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر مُتاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة. لا حزنٌ، لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثمّ، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وحفلة التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها».
مشاركة :