تشهد بغداد هذه الأيام حراكاً سياسياً لتشكيل الحكومة العتيدة. غير أنه وراء الكواليس، وحتى على خشبة المسرح، يشتبك لاعبان خارجيان: إيران وأمريكا. عمّ يبحث كل منهما في بلاد ما بين النهرين؟ وهل يتهدد العراق المزيد من التشظي؟ درجات الحرارة في بغداد تصل إلى أكثر 45 درجة مئوية. وجاء إعلان المحكمة الاتحادية العليا في العراق الأحد الماضي (18 آب/أغسطس 2018) مصادقتها على نتائج الانتخابات البرلمانية ليرفع من سخونة البيئة السياسة؛ إذ إن الإعلان هو بداية مهلة دستورية مدتها 90 يوماً أمام الأحزاب الفائزة لتشكيل الحكومة العتيدة. وكان البرلمان العراقي قد أمر في حزيران/يونيو الماضي بإعادة فرز أصوات الانتخابات التي جرت في 12 أيار/مايو، ولكن هذه المرة يدوياً بعد أن سبق وفُرزت إلكترونياً. جاء ذلك التطور بعد صدور تقرير حكومي أفاد بوجود انتهاكات واسعة حمل مفوضية الانتخابات مسؤوليتها. لكن إعادة فرز الأصوات يدويا لم تسفر إلا عن تغير طفيف مقارنة بالنتائج الأولية؛ إذ احتفظت كتلة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر بالصدارة وهو ما يعني أنه سيلعب دوراً محورياً في تشكيل الحكومة المقبلة. عقدة الكتلة الأكبر أروقة الأحزاب والكيانات السياسية تعج بالحراك السياسي واسع النطاق لبناء التحالفات في سبيل تشكيل الكتلة الأكبر التي ستدخل البرلمان العراقي المقبل، وتتولى تسمية رئيس الوزراء الجديد. وانقسمت الكتل الشيعية الخمسة الفائزة بأغلبية أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية فيما بينها لتشكيل الكتلة الأكبر. وكانت معلومات قد وردت عن تشكيل "نواة" للكتلة الأكبر بين "سائرون" بزعامة الصدر، و"تيار الحكمة" بزعامة عمار الحكيم، و"ائتلاف الوطنية" بزعامة إياد علاوي، و"قائمة النصر" بزعامة رئيس الحكومة حيدر العبادي. لكن حتى اللحظة لم يبصر النور رسمياً. في الطرف المقابل يقف "تحالف الفتح" (الحشد الشعبي) الذي حل ثانياً في نتائج الانتخابات بزعامة هادي العامري، برفقة "ائتلاف دولة القانون" بزعامة نوري المالكي في تكتل أقرب لإيران. وتشير تقديرات إلى أن الصدر والحكيم وعلاوي والعبادي يحظون بدعم أمريكي، في حين تدعم طهران العامري والمالكي. المحلل السياسي العراقي د. حيدر سعيد يرى أن الكلام السابق "صحيح إلى حد كبير". ويجزم المحلل العراقي أنه وفي ظل العقوبات ستجد إيران نفسها مضطرة لـ"التكييف" مع التصور الأمريكي لتشكيل الحكومة. واشنطن وطهران في علاقة ملتبسة؟ يبدو توصيف العلاقة الإيرانية-الأمريكية في العراق أمراً ليس باليسير؛ إذ أنها تتراوح من المنافسة، بشقيها السلبي والإيجابي، إلى الخصومة وصولاً للتعاون الوثيق في بعض المفاصل. في حين يرى البعض أن ما يجري مجرد توزيع للأدوار بين واشنطن وطهران وأنهما متفقتان على الأساسيات. وذهب البعض الآخر إلى تشبيه تلك العلاقة مجازاً بالتأرجح بين زواج الإكراه وزواج المصلحة. حيدر سعيد، الذي عملاً باحثاً في عدة مراكز في الأردن والعراق قبل عمله الحالي في قطر، يصف العلاقة بين واشنطن وطهران في العراق كالتالي: "منذ 2003 طبعت التنافسية تلك العلاقة، إلا أنها اليوم مع ترامب أصبحت صراعية". ويردف المحلل السياسي في حديث لـDW عربية "تخلل ذلك محطات تعاون: لدى إسقاط نظام صدام حسين وتنسيق أمني في عامي 2006 و2007". مرت العلاقة بين واشنطن وطهران بأطوار عديدة منذ ما قبل إسقاط نظام صدام حسين عام 2003. ويعتقد الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة أنه اليوم وفي "زمن ترامب" وتصعيده ضد إيران من الواضح أن واشنطن تسعى لمواجهة الدور الإيراني في العراق: "واشنطن تريد من العراق حسم موقعه: هل هو في صفها أم في صف إيران؟". ماذا يريد الطرفان من بلاد الرافدين؟ يرى حيدر سعيد أن طهران تسعى أولاً وقبل كل شيء "للإبقاء" على العراق في محورها الإقليمي الذي بنته على مدار سنوات طوال. هذا على المستوى الجيواستراتيجي. ويشير خبراء إلى أن هذا المحور يمتد من طهران مروراً ببغداد ودمشق وصولاً إلى بيروت على سواحل البحر الأبيض المتوسط. أما اقتصادياً وفي ظل العقوبات الأمريكية ستكون العراق "الرئة الاقتصادية" لطهران: "تعوّل إيران على تصدير بعض من النفط عن طريق العراق وبأعلام عراقية كما كان يفعل العراق في تسعينات القرن العشرين كوسيلة للالتفاف على الحظر". وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين العراق وإيران خلال العام الماضي نحو 6,7 مليار دولار، بينها 77 مليون دولار فقط هي قيمة صادرات بغداد إلى طهران، وفقاً لمصدر رسمي في وزارة التجارة. ومن هنا يفسر حيدر سعيد "غضب" إيران من إعلان العبادي عن "التزام العراق بالعقوبات". وفي المقابل، لا تريد واشنطن، وليست مستعدة، أن تخسر دولة مثل العراق لصالح إيران على حد تعبير حيدر سعيد، مضيفاً: "ليس فقط لدى ترامب بل هناك شعور عام في الولايات المتحدة أن واشنطن بذلت الكثير منذ 2003 في العراق". رئيس حكومة إقليم كردستان العراق نيجرفان برزاني مع الرئيس الإيراني حسن روحاني الأكراد والسنة في انتظار الشيعة وتقف الأحزاب الكردية الكبرى، وعلى رأسها الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، إضافة إلى تيار المحور الذي يضم الأحزاب والكتل السنية، بانتظار حسم الشيعة قرارهم بتشكيل الكتلة الأكبر. وتبلغ عدد مقاعد البرلمان العراقي 329. ومن الصعب حساب عدد المقاعد على أسس مذهبية وعرقية؛ ويعود ذلك للتداخل بين القوى الفاعلة والانشقاقات والاستقطابات ووجود نواب سنة وشيعة في قوائم مختلطة. مهما يكن من الأمر، يقدر الصحفي العراقي سلام سرحان "عدد النواب الشيعة بحدود 160 والسنة بأكثر من 90 والأكراد بحدود 55"، حسب ما أفاد به DW عربية. كان الأكراد قبل الاستفتاء على الاستقلال في سبتمبر/أيلول الماضي وما تلاه من "انتكاسة" بيضة القبان في اللعبة السياسة العراقية. واليوم يرى حيدر سعيد أن الأكراد "فقدوا" تلك الميزة، ويردف أنهم سيستمرون على نفس نهجهم بالتعامل مع باقي أطراف اللعبة: "سيبحث الأكراد عن الطرف الذي سيلبي لهم المطالب الأساسية المتلخصة في العقد الثلاث في العلاقة المركبة بين أربيل والمركز: المناطق المتنازع عليها، والثروة النفطية، ووضع البيشمركة". وبدورها تبدو النخبة السياسية الممثلة للمكون العربي السني في العراقي منقسمة بين المحورين السعودي والقطري-التركي كارتداد للأزمة الخليجية. ويقول الباحث حيدر سعيد أن تلك النخبة "تجري وراء الزعامة والسلطة والمصالح الفردية على حساب السنة كمكون". ويقول سعيد إن لديه معلومات عن اجتماعات بين أطراف سنية وحيدر العبادي وقرارها بالمضي مع العبادي في تقوية مركزية الدولة والابتعاد عن فكرة الإقليم السني والنظام اللامركزي وإدارة الملف الأمني للمحافظات السنية بيد أبنائها. ويلخص خاتماً حديثه: "تبقى القوى السياسية السنية أقرب لواشنطن منها لإيران". خالد سلامة
مشاركة :