يعتبر الشاعر والروائي الشيلي روبرتو بولانيو صوتا من الأصوات الروائية المجددة في الفن القصصي الأميركي اللاتيني المعاصر. استهل نشاطه الأدبي بمجموعة من الدواوين الشعرية، ثم اتجه إلى الرواية والقصة القصيرة. واجتهد منذ البداية في خلق مدرسة أدبية جديدة في أدب أميركا اللاتينية بشكل عام، وشيلي بشكل خاص. وتعد مجموعته القصصية “مكالمة تليفونية” التي صدرت أخيرا عن دار بتانة بترجمة أستاذ ورئيس قسم اللغة الإسبانية عبير عبدالحافظ، من أهم مجموعاته والتي تتميز بتعدد أبعادها ودلالاتها، وشفافيتها التي تتبع العلاقات الإنسانية في تشابكاتها المختلفة في ظل الانتشار الهائل شبكات التواصل الاجتماعي والانفتاح المعلوماتي عبر الإنترنت. ولفتت عبدالحافظ إلى أن بولانيو عمد منذ محاولاته الأولى في الكتابة إلى العمل على ترسيخ فن طليعي حديث قادر على الخروج من أسر الظاهرة الأدبية، التي دشنت باسم الواقعية السحرية وصارت مثل سمة شبه ملزمة لنجاح أي منتج روائي صادر عن دول أميركا اللاتينية في فترة من الفترات. وقالت “تمرد الأديب الشاب مثله مثل باقة من الكتاب المجددين على تقنيات المدرسة المذكورة، ونجح مع مجموعة من الروائيين المعاصرين له، والأكثر حداثة منه مثل خورخي بولبي وسانتياغو رونكاجليولو وأندريس نيومان وغيرهم، في التمرد على النمطية التي سادت حتى حقبة الثمانينات من القرن الماضي، وبدأت تتضح سمات فن روائي وقصصي لاتيني محدث أكثر التصاقا بوجودية الإنسان اللاتيني المعاصر بشكل عام والشيلي بوجه خاص، مع الأخذ في الاعتبار التغيرات العالمية التي طرأت على المجتمع الدولي كافة، ومنها على سبيل المثال الثورة المعلوماتية وتقنيات شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها، ما طبع بدوره وجوها وقوالب جديدة لأشكال التعبير الإنساني”. ورأت أنه بالحديث عن الموتيفات السردية الأصيلة في أعمال بولانيو، يتصدرها بجدارة المشهد السياسي لبلاده في أعقاب الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس سلفادور الليندي وما تبعه من حكم عسكري دكتاتوري، ظلت شيلي تئن تحت وطئته خصوصا شبابها ومفكريها لفترة طويلة. ويطل الملمح السياسي المذكور كنقطة ارتكاز أساسية ومحورا تلتف حوله شخصيات بولانيو ووحدات بنائه السردي. نماذج متنوعة تنتمي إلى عوالم مختلفة وإحداثات زمانية متقاطعة نماذج متنوعة تنتمي إلى عوالم مختلفة وإحداثات زمانية متقاطعة وتؤكد عبدالحافظ أن شخصية روبرت بولانيو نفسه تطل كمعادل موضوعي أحيانا، وضدّي في أحيان أخرى، للكاتب نفسـه، وهو أول ما يلاحظ من تشابه الاسمين. وقالت إنه في مجموع نصوصه السردية “مكالمات تليفونية” نرى نماذج متنوعة تنتمي إلى عوالم مختلفة وإحداثات زمانية متقاطعة، مثل الكاتب الشهير ذي الموهبة المحدودة، والكتّاب الشباب وموهبتهم الإبداعية الجديدة، فضلا عن التماس مع أحداث تاريخية مثل الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية، والتفاصيل التاريخية لبلاده، كما يكسر حواجز الأمكنة السردية منطلقا إلى فضاءات أخرى مثل روسيا والولايات المتحدة، وإسبانيا والمغرب، وغيرها من الأماكن التي ينطلق فيها تيار السرد الجامح في تدفقه والسكن في نبرة حكيه. وتزداد حيرة القارئ والدارس لنص بولانيو الحالي، إذ أن الشكل النهائي للكتاب يبدو في مجمله مجموعة من القصص القصيرة المتضمنة بدورها في مجموعات ثلاث منفردة، إلا أن صوت الراوي وأداءه الساخر الحالم في الوقت ذاته، يطرح النص في رداء روائي تنسج خيوطه منظومة الكاتب- الراوية- البطل. إذ أن الصبغة الأوتوبيوغرافية الملفقة تعمل على أن ينحو العمل في هذا الاتجاه المضلل الذي لا يخلو من عنصري التشويق والتأمل المتلاحمين. وأوضحت عبدالحافظ أن المرأة في الكون الروائي لدى بولانيو تبرز في إطار هالة متكررة وأيقونة ثابتة، تستلهم الحدث وتصوغه في آن واحد، بهذا الشكل يتصدر العنصر النسائي المشهد الروائي في المجموعة البالغ عددها أربع عشرة قصة، والمقسمة إلى ثلاثة أقسام، يضم القسم الثالث أربع قصص تتنوع بطلاتها ما بين الرفيقة السياسية المناضلة، والمراهقة التي تتلمس طريقها، وممثلة الأفلام الإيروتيكية. ولا يقتصر النموذج النسائي على جنسية أو فصيل اجتماعي بعينه بل يمتد إلى بلدان وثقافات متنوعة، يفسح لها بولانيو الطريق لتقدم وجهة نظرها في الحياة والأشياء. وتبدو صورة المرأة عنده وكأنها امتداد طبيعي للصورة الطليعية التي منحها قبله بورخس وكورتاثار تحديدا في نموذجهما القصصي، والذي يكسر نمطية كيان وكينونة ووجود المرأة التقليدي في العمل الأدبي بصفتها فاعلا أم مفعولا. وحول أسلوبية السرد عند بولانيو، قالت عبدالحافظ “تتضح هذه البساطة والتسطيح الأفقي المتعمد في آلية الحكي، فضلا عن اللغة السردية المجردة التي يعمد فيها إلى إبراز الجانب الإنساني، بعيدا عن الانصياع لسطوة العبارة، متخذا من الحديث الذريعة المثلى لسبر أغوار شخصياته في وضوح وجلال، تتحد فيه المشاعر المتداخلة تارة، والمتناقضة تارة أخرى ما بين الحسرة والحنين إلى الوطن، والسخرية السوداء والدعابة الفلسفية إلى غيرها من مكونات الفلسفة لديه. وعلى الرغم من رحيل بولانيو المبكر، فإنه خلف نتاجا غزيرا في الرواية والشعر والقصة القصيرة، كما حصل على العديد من الجوائز الأدبية الرفيعة. مثل جائزة رومولو جاييجوس، وهي بمثابة نوبل أميركا اللاتينية، وجائزة مدينة برشلونة، وجائزة ألتاثور في شيلي. وترجمت أعماله إلى أغلب لغات العالم، كما كانت ولا تزال موضوعا للبحث والدراسة من الأكاديميين وشباب الباحثين على مستوى العالم، وليس أدل على ذلك من الترجمة التي نقدمها للقارئ لمجموعته القصصية: مكالمات تليفونية”.
مشاركة :