قبل الولوج في تحليل العلاقة بين اقتصاد الريادة والإبداع من جانب، والإدارة الريادية المبدعة من جانب آخر، لا بدَّ من تحديد مفاهيم كل منهما، فالريادة والإبداع يعرفان بأنهما القدرة على توليد شيء جديد لم يسبق وأن كان متداولا بهذا الكيف والشكل؛ أي إنتاج الأفكار أو الاختراعات الجديدة ذات الجدوى والأهمية الفائقة، كما يعرفان من الزاوية الاقتصادية البحتة بأنهما البضاعة أو الخدمة الاقتصادية التي تنتج عن التفكير الإبداعي، وتكون ذات قيمة اقتصادية مرتفعة. وقد أضحى الاقتصاد الإبداعي محركًا رئيسيا في تنويع وتحديث اقتصادات العديد من البلدان الساعية إلى تحقيق التنمية المستدامة، بعد أن شكلا قاعدة تزداد اتساعا في البلدان المتقدمة، حيث أصبح امتلاك وحيازة وسائل المعرفة بشكل موجه ومبرمج، واستثمارها بكفاءة وفاعلية من خلال دمج المهارات وأدوات المعرفة الفنية والابتكارية والتقنية المتطورة، أمرا ملازما لتطورها الاقتصادي في المرحلة التنموية الراهنة التي يشهدها العالم المتقدم (مرحلة الاقتصاد المبني على المعرفة والمعلوماتية، والتكنولوجيا المتنامية بديناميكية عالية)، والتي أصبحت تمثل نظاما اقتصاديا مميز المعالم وغير محدد الاتجاهات يمثل فيه العلم كيفا ونوعا، عنصر الإنتاج الرئيسي والقوة الدافعة إلى إنتاج الثروة، ومن ثم فإنه ذلك الاقتصاد الذي يعمل على زيادة نمو معدل الإنتاج، بشكل متنامٍ على المدى الطويل بفضل استعمال واستخدام تكنولوجيا الإعلام والاتصال والمعلومات. وفي هذا السياق برز مفهوم ريادة الأعمال الذي عرف بأنّه نشاط يهتم بتأسيس الأعمال الجديدة التي تعتمد على المبادرة باقتحام مجال جديد، أو بتنظيم توليفة مغايرة لما هو قائم من الأعمال من أجل تفادي المنافسة في مجالات الأعمال التقليدية القائمة وتحقيق الربح مع تقدير المُخاطرة المترتبة على ذلك، والتحسب لتداعياتها المحتملة حتى قبل تنفيذ تلك المشروعات، وبناء عليه فإن رائد الأعمال هو من يمتلك مجموعة من المهارات والمرئيات العقلية الارتقائية المتميزة إلى جانب رصيده من التحصيل العلمي والفني، بحيث يكون محصلة ذلك هو التخطيط والتنفيذ للعمل الجديد، وهنا لا بد من الإشارة إلى حقيقة مهمة، هي أنه على الرغم من أن ريادة الأعمال تعتمد على مهارات نابعة من المبادرات الفرديّة، فإنها تحقق أفضل النتائج حينما يتمكن مدير المشروع من استنهاض الطاقات الإبداعية لدى فريق العمل بأجمعه، ولاسيما أن التطورات العلمية والتقنية المتسارعة جعلت من ريادة الأعمال آلية مهمة من آليات التطوير الاستراتيجي في مختلف المنشآت الساعية إلى كسب السوق، وامتلاك مقومات المنافسة، وبذلك سيكون ذلك المدير هو المدير الريادي المبدع الذي يتسع اهتمامه ليشمل السعي إلى إنشاء مشروعات جديدة أو استحداث وحدات إدارية جديدة داخل المنشأة، وتحفيز ودعم مبادرات الموظفين والعاملين فيها، فضلا عن تطبيق آليات التجديد الاستراتيجي الذي يشمل إعادة التفكير في التوجهات والفرص المتاحة للمنشأة. وفيما يتعلق بمملكتنا الحبيبة، فإننا نجد أن السياسات الاقتصادية المعتمدة في البلاد تؤكد أهمية دعم وتعزيز ريادة الأعمال والابتكار، وخاصة أن نحو (52) دولة في العالم قامت بتبني النموذج البحريني لريادة الأعمال باعتباره أنموذجا متميزا قابلا للتطبيق، والذي يرتكز على فكرة أساسية تقوم على احتضان المشروعات الناشئة وتقديم المساعدة والاستشارة والتمويل لها عن طريق المؤسسات الداعمة، في إطار سعي المملكة إلى استنبات الاقتصاد المعرفي، وتوفير بنيته التحتية المعرفية والمؤسسية، ولاسيما أن الرؤية الاقتصادية للبحرين 2030 تعد الريادة هدفا رئيسيا من أهدافها، لذلك لا بد من توفير مناخ اقتصادي وتشريعي ملائم يحفز المؤسسات التربوية لتشجيع وتطوير العلم والمعرفة، وتوسيع مدارك الطلبة في الاستنباط والاستنتاج من خلال فتح آفاق أوسع للبحث العلمي التجريبي، كما تُعد الرؤية الاقتصادية للبحرين 2030 الاستثمار في الإنسان نقطة الانطلاق نحو التطور والازدهار. وحول هذه التوجهات سبق وأن أكد صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد الأمين، النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، رئيس مجلس التنمية الاقتصادية «أن القدرة التنافسية العالية في الاقتصاد من خلال المميزات المتوافرة والتشريعات والنظم المتطورة ستسهم في التشجيع على الاستثمار وتنميته وزيادة الإنتاجية، والتحفيز على الابتكار والإبداع الذي سيسهم في زيادة حيوية مختلف القطاعات وتسريع وتيرة النمو الاقتصادي بما يعود أثره على الوطن والمواطنين»، حيث إن رقي الوطن ومنفعة المواطنين هما غاية تشجيع الريادة والإبداع. وفي حديث آخر يرسم سموه الأبعاد المختلفة لتوطين واستنبات الاقتصاد الريادي والإبداعي عبر مواكبة متطلبات التحديث في منظومة التنمية الشاملة من أجل تحقيق انطلاقة متجددة بفرص نوعية وواعدة، والانتقال من النشاط الاقتصادي القائم على إنتاج وصناعة السلع المرتكزة على إنتاج البترول والغاز فقط إلى إنتاج وصناعة الخدمات المعرفية، ما يقود إلى تحقيق تحول جوهري يتماشى مع حجم وشكل التحديات الاقتصادية والتقنية الراهنة، ومواصلة وتيرة التنمية بمختلف قطاعاتها على أسس ثابتة من القيم الداعمة للمسيرة التنموية للمملكة، ومن هذا المنطلق فإن مؤسسات الدولة المختلفة توفر للمواطنين فرص الإبداع والانطلاق لتطوير خبراتهم ومهاراتهم، وذلك عبر برامج التعليم والتدريب والتأهيل، ما يمكنهم من استيعاب المستجدات الحديثة، والتعاطي معها بكفاءة وفاعلية، ولاسيما أن المرحلة الراهنة تتطلب اعتماد حلول إبداعية واستثمارات ريادية لتجاوز التحديات التنموية التي تواجه مجتمعنا المتحفز إلى أمام، وتحديث منظومة التنمية وإعادة ترتيب أولوياتها، بما يشكل نهجًا متكاملا لتنمية الكفاءات والمهارات، ودعم تكوين وإعداد رواد الأعمال، والمساهمة في إيجاد فرص العمل المناسبة من خلال تعزيز الاتجاه نحو الابتكار وخلق المشاريع الإبداعية، والحرص على إثراء بيئة الأعمال بالأفراد المبادرين، ومساعدتهم على استثمار الفُرص المتاحة، وتمكينهم من الاستثمار الأمثل للموارد المتوافرة في المجتمع، وقد لعب صندوق العمل «تمكين» دورا مهما وحيويا في دعم واحتضان وتدريب رواد الأعمال بما يسهم في تعزيز قدرة منشآتهم على تطوير إنتاجيتها، وتنافسيتها، وقابليتها لتوفير فرص عمل نوعية جديدة، وصولا إلى زيادة نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي. { أكاديمي وخبير اقتصادي
مشاركة :