إبراهيم السعافين: لا توجد علاقة جدلية بين الإبداع والأكاديمية

  • 1/8/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

إبراهيم السعافين؛ أستاذ الأدب والنقد الحديث في الجامعة الأردنية، يكتب الشعر والقصة والرواية والمسرح، بالإضافة إلى التحقيق والترجمة وكتب الأطفال، ولكنه اشتهر كناقد، علماً أنه ترأس لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية في دورتها الأخيرة. من أبرز أعماله الروائية: «الطريق إلى سحماتا»، وفي المسرح: «الطريق إلى بيت المقدس»، و»ليالي شمس النهار». ومن أعماله النقدية: «الأدب العربي وفنونه»، «تاريخ النقد الأدبي»، «تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام»، «مدرسة الإحياء والتراث». وفي الشعر: «أفق الخيول»، «حوار الحكايات». حصل على جائزة الملك فيصل، وجائزة جامعة الشارقة للتميز العلمي. هنا حوار معه: > ماذا تقول عن تجربتك المتشعبة بين النقد والإبداع؟ - بدأت شاعراً، وظلّ الانشغال بالكتابة الأدبية هاجسي في المرحلة الجامعية. على أنّ انشغالي بالدراسات العليا والبحث العلمي والنقد والتدريس الجامعي، عزلَني إلى حد ما عن الإبداع. كتبتُ مسرحيتين في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، وكتبت فصولاً من مسرحيّات لم تمكني ظروفي وانشغالاتي من إكمالها. على أني نشرت ديوانين أثناء عملي الجامعي ومسؤولياتي الكثيرة عامي 2005، و2013، ثم نشرت أخيراً ديواناً ثالثاً، والرابع جاهز للنشر. لم يغب عني هاجس الإبداع الذي يحتاج إلى التفرّغ والانتباه الشديد. هذا هو الحال، وأنا أرى أن النقد نفسه إبداع وأتعامل معه – مع الوعي بطبيعته وأدواته واتجاهاته ومناهجه- على أنه إبداع. > الفارابي كان لغوياً وأديباً وفيلسوفاً، وابن سينا الذي لم يمنعه الطب من أن يكون حجة في علوم أخرى... ألا يعد التخصص وضعاً معرفياً ناشزاً؟ - أرى أن التخصص لا يتعارض مع سعة الاطلاع. التخصّص في النقد لا يعني أنني لا أفهم بعمق حركة الأدب في مختلف عصوره وليس لي بصر بعلوم اللغة قديمها وحديثها. حين التحقت بقسم اللغة العربية في جامعة القاهرة أحسستُ أن السنوات الأربع لا تكفي للاطلاع على ثمرات المطابع في الأدب العربي والأجنبي والمصادر الأساسية في اللغة والأدب والاجتماع وعلم النفس والفلسفة والسياسة ونظريات الاقتصاد والفنون ومبادئ العلم وتطبيقاته والفلكلور والتاريخ ونحو ذلك. التخصص الضيق يفقر الوعي ويحدد الرؤية ويجعل المعرفة جزراً معزولة، ويجعل المتخصص أقرب إلى صاحب وكالة سيارات أو بضاعة ونحو ذلك. العالم يتجه إلى تضافر المعارف لأنها العملية والحقيقية، فالمعارف على تعددها تنبع من أصل واحد وتلتقي في نقطة معينة. > تبدو روايات الأكاديميّين مصنوعة وفق شروط النظريات السرديّة، وهو ما يجعلها قليلة الماء الإبداعيّ، فهل يُعدّ احتفاء القراء بروايتك «الطريق إلى سحماتا» دلالة على أنها نجت من «لعنة» الأكاديمية؟ - الجواب على هذا السؤال صعب من ناحيتين: فأنا أكاديمي وأنا مِن ضمن اهتماماتي الأساسية السرد ونظرياته وتحولاته وإشكالياته، لكنني كما قلت سابقاً صحبت الإبداع منذ اليفاع، وحين كتبت رواية «الطريق إلى سحماتا» كانت رؤيتي توجه عملي في الرواية وليست نظرية الرواية ولا قضاياها ولم يكن يشغلني التجريب ولا نظريات الرواية ولا اللعب الشكلي الذي يكتفي بالبريق دون الجوهر. لديَّ قضية إنسانية مسّت روحي واجتاحت كياني. ما أفدته من انشغالي بنظريات الرواية وواقعها أنني كنت على وعي بألا تفقد الرواية شكلها وألا تمضي في الثرثرة وفوضى السّرد. أرجو أن تكون قد نجت مما تسمينها «لعنة». > الرواية تحكي وجع الشتات الفلسطيني والحركة الطلابية في الخارج... برأيك هل يمكن مواجهة العدوان بالحنين وإنعاش الذاكرة؟ - ليس العمل الروائي وظيفياً بهذا المعنى. هو يبحث في الجوهر الإنساني ويحفر في تقديم قضية إنسانية. الحنين أحد العناصر التي تبدو في الرواية، وهو ليس رومانسياً. هؤلاء الشباب جزء من رؤية وموقف كان طاغياً في زمن الرواية. الحنين المفكّر هو الذي قاد إلى العمل. الحنين وحده لم يكن سلبياً. كان إيجابياً، إذ دفعهم إلى قراءة الواقع ثم تحمّل المسؤولية بغض النظر عن النتائج المرحلية. > الإحساس باليأس مسيطر على شخصيات الرواية، لكنها رغم ذلك تتضمن قصص حب... هل الحب وسيلة لهزيمة اليأس؟ - دعيني أختلف معك في هذه النقطة بالذات. كل الشخصيات في أسوأ الظروف إيجابية، كلها فاعلة، الظروف هي التي أدت إلى التقهقر والتراجع، بعضهم سقط مقاتلاً وبعضهم جرح وبعضهم ظل يحمل فكرة المقاومة والعودة. الشخصيّات التي لفّها التخاذل انطلقت من موقف ذاتي معتمدة على الحالة العامة التي زرعت فيها روح الفردية والسكون. والحب هنا شارة على الحب الفردي والجمعي وتوق للحياة وليس للموت ولكن بشروط الحياة الكريمة. > ما هو السؤال الفلسفي في الرواية؟ - لعل الإجابة تتعدّد بتعدد القرّاء ومن وجهة نظر كلٍّ منهم، وأنا أعد نفسي الآن قارئاً للرواية، فالمعضلة أمام الشخصيّات وأمام مَن يقرأ الرواية أنها تتحدث عن سؤال الحريّة والهوية والوجود، فنحن أمام عينة من شعب اقتلعت من أرضها، لم تعتد ولم تسرق ولم تنهب، بعد أن كانت تعيش كما يعيش الناس مسالمة آمنة تستوعب كل الجماعات الإنسانية من مختلف الأعراق والأديان والمذاهب ليقرر الاستعمار في غفلة من القانون والعدالة والتاريخ والجغرافيا أن يقوم بعملية إحلال، غطاؤها إنساني جراء ما اقترفت أيديهم وجوهرها عنصري، فلا هم في النهاية حلّوا مشكلة ما اقترفوا ولا هم أجروا العدالة بحق الشعب المقتلع. سيستمر الصراع ما دام الشعب الفلسطيني المظلوم يرى العالم كله يدير له ظهره باستعلاء مقيت. > الروائيون والشعراء عصاميون... هل العصامية تتعارض مع الأكاديمية؟ - لا أظن أن ثمة علاقة جدلية بين الإبداع والأكاديمية، ولا أدري عن أي الأكاديميين نتحدث؟ العصامية قد تكون في الطرفين. ولكن الأكاديمي بالمعنى الذي في نفسي يفترض أنه في طليعة العصاميين. > جاءت بنية الرواية محكمة ومشوقة مليئة بالحياة تسائل وتترك الشخصيات تعبر عن حيرتها وأوجاعها... هل هذا يعود إلى اطلاعك على النظريات السردية أم لأسباب ذوقية تتصل باختياراتك كقارئ؟ - ذلك يعود إلى هذه الأسباب مجتمعة، ولارتباطها بالمخزون الشفوي الذي عايشته السنين الطّوال، وللتجارب الحياتية التي غاصت في نسيج العمل ولم تطفُ على السّطح. لا أظن أن معرفة النظريات السّردية كافية لكتابة عمل روائي. كنت أحاول أن أنسى أي قواعد أو نظريات، أعيش الشخوص والأحداث والأماكن وأتخيّل الزمان بروح الطفل وروح الشاب وروح الكهل، فأن تعيش حياة الرواية أفضل ألف مرّة من أن تضع نفسك في قوالب وهياكل لا ماء فيها ولا رواء. > علاقتك بالشعر ملتبسة بحيث يبدو وسيطاً جمالياً بين حدين: حد الحب المخملي الملهم والآسر، وحد القسوة... كيف تفسر هذه الإشكالية؟ - الشعر عندي هو التعبير الحي عن الإنسان في حالاته كافة، والإنسان ليس حالة واحدة، وقد كان الشعر رفيقي في الحياة أعبر فيه عن نفسي في حالات الحب والرضا والسخط، ولا أعد التعبير عن الهم الجمعي بعيداً مِن الهم الفردي. أنا من الذين يعيشون الأحداث والتجارب العامة بوصفها تجربتي الفرديّة. وليس من الغريب أن يتوحّد الإنسان والوطن والحبيبة لديّ في قصيدة واحدة. الشعر تعبير عن الذات والحياة والواقع والكون والوجود وخير الشعر ما تأمل كل هذه الأقانيم وصهرها الخيال في مركّبٍ واحد. فالذي يعيش الأحلام ويختار مفرداته للتعبير عن هذا العالم الآسر هو الذي ينفعل بتجربته في الحياة والواقع فينكأ ويجرح. > أطروحتك للماجستير كانت بعنوان «أثر التراث الشعري العربي على مدرسة الإحياء في مصر»، وبعد اشتعال أربع ثورات شعرية متتالية في مسافة قصيرة تاريخياً بدأت بحركة الإحياء التي شرعها البارودي... هل تعتقد أن الشعر العربي في حاجة إلى ثورة جديدة أم إلى إعادة إحياء؟ - أرى أن حركة الإحياء الأولى في عهد البارودي كانت حركة طبيعية للعودة إلى نموذج عام لتحييه وهو نموذج عصور الازدهار (الجاهلي والإسلامي والعباسي)، ولعل ذلك لعوامل موضوعية أثّرت في حركة الشعر العربي حتى عصر النهضة (وإن كان لي ملاحظة على تعميم هذا الحكم). وإذا كنّا شهدنا حركة الإحياء، فقد شهدنا حركات التجديد عند شعراء الديوان وأبولولو والمهجر، ثم حركة الشعر الجديد لدى الرواد مثل السيّاب والبيّاتي وصلاح عبد الصبور ونازك الملائكة وأدونيس والقباني وحجازي وغيرهم، ثم الأجيال التي طوّرت لغة الشعراء في العقود اللاحقة مثل محمود درويش وأمل دنقل، وظهرت منذ عقود قصيدة النثر التي تمتد إلى أوائل القرن الماضي ويحاول منظروها وشعراؤها أن يسندوا إلى أنفسهم قيادة الحركة الشعرية. لا أرى أننا في حاجة إلى إحياء جديد بالمعنى المصطلح عليه، ولكننا في حاجة إلى نفض الغبار عن تراثنا الشعري العظيم وقراءته بعمق وذكاء واستلهامه مِن دون محاكاته وتقليده ليكون مدماكاً من مداميك تجربتنا الشعرية. وأنا لا أخشى من المتطفلين على الشعر ولكن أخشى أن تتسارع ميوعة الحركة النقدية فتنسب إلى الشعر الأدعياء الذين يهرفون بما لا يعرفون. > هل تؤمن بضرورة تجاوز التراث بعد استيعابه؟ - فهمي للتراث أنه ليس نقطة متعيّنة في مكانٍ ما أو زمن ما. التراث يقع حتى آخر نقطة في الزمن، وهو ملكٌ لنا جميعاً وقراءة الجيد منه في كل العصور واجب. لكن الأوجب هو التجاوز والتخطّي. لا أؤمن بالقطيعة مع السابق ويالتالي مع التراث، فالتواصل أمر ضروري بل حتميّ. قيل في الأجيال الحاضرة إنها أجيالٌ بلا آباء. وهذا مأزق خطير، ولعل المسؤولين عن المناهج في هذه الأيام يغذّون هذه الاتجاه بتلقين التلاميذ نصوصاً ضعيفة تخدم أغراضاً ما، ولكنها تخدم الهدف الرئيس من إدراجها في مناهج التعليم. > ما مدى صواب القول بأن مؤسّسة النقد العربي ظلّت حبيسة مدارج الجامعة ولم تنزل إلى شوارع الكتابة، وأنّ ما يكتب فيها لا يزيد عن كونه تطبيقات مدرسيّة صارمة لا تخدم المُنجَز الإبداعي؟ - لا أستطيع أن أتحدّث عن مؤسسة واحدة للنقد العربي، ولذلك نرى أن النقد في تعامله مع الواقع الإبداعي مرّ بمراحل، فالنقد حتى السبعينات كان له دوره في متابعة المنجز الإبداعي، وكانت هناك سطوة للنقد يخشاها المبدعون، ولكن الأمور بدأت تختلف قليلاً في ما بعد، ولعلّ المبدعين أدركوا هذا الأمر، وراح بعضهم يبحث عن منابر إعلامية تمكنه من الذيوع والشيوع والتميّز، فرحنا نرى بعضهم يسيطر على صحف ومجلات وبرامج، تستقطب نقاداً مناصرين، أدى إلى شيوع ظاهرة الشللية، وراح بعض النقاد يسكتون أو يتحدثون طمعاً ورهباً. ولذلك قلّت المتابعات النقدية خارج هذا الإطار وانكفأت على نفسها. > في رأيك، ما جدوى الجوائز بالنسبة إلى المبدع؟ - الجوائز الأدبية مفيدة من زاوية أنها لا تجعل التكريس المعيار الوحيد لنيل الجوائز، وكثير من الناس يعرفون الفائز من اسمه وقد يكون هذا الاسم مصنوعاً بسبب عوامل مختلفة بعضها غير موضوعي، ومفيدة أيضاً في ظهور بعض الروايات المتفوقة وتداولها ويصعب أن يحظى صاحب هذه الرواية بالذيوع خارج هذه الجوائز. أما الموضوعية فهي نسبية حتى في أعرق الجوائز تتحكم فيها عوامل مختلفة أهمها خبرات وأذواق المحكمين، ومهما يكن فإنّ الجوائز ليست بهذا السوء الذي يتحدث عنه بعض من تخطئهم الجائزة أو من يصنفون الأمر من زاوية: من ليس معي فهو ضدي، ويكون حكماً على أذواق الناس ومذاهبهم واتجاهاتهم وخبراتهم وانتماءاتهم وأعراقهم وبلدانهم وطبقاتهم الاجتماعية!

مشاركة :