تتجلى إنسانية القرآن، في روح التسامح والمودة والمساواة التي نشرها بين البشر، وما أرساه من علاقة جيدة بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات السماوية الأخرى.. فكل تعاليمه وتوجيهاته تؤكد أنه يجسد دين الرحمة والعدل والتسامح والحوار مع المخالفين للمسلمين في العقيدة.د. محمد سالم أبو عاصي الأستاذ بجامعة الأزهر يوضح لنا الجوانب الإنسانية في رسالة القرآن الكريم، فيقول: إنسانية القرآن تتجلى بوضوح في تعاليمه ومواقفه وتشريعاته فهو أولاً يحث على التسامح والتعامل بإنسانية مع كل أتباع الأديان السابقة، ويقضى على كل صور التعصب الديني، ويفتح ذراعيه لأتباع جميع الرسالات السماوية، وجميع الأنبياء والرسل، ويحتضن الناس جميعهم: أبيضهم وأسودهم، عربيهم وأعجميهم، شرقيهم وغربيهم من دون تفرقة، ولا تمييز، وهدفه الإنساني هنا واضح وهو أن يجمع الإنسانية تحت راية واحدة.. وهي راية توحيد الله سبحانه والإيمان به والتمسك بتعاليم الدين، وإعلاء شأن القيم الإنسانية والأخلاق الرفيعة ليلتقي الناس جميعاً حولها.. ولنا أن نتأمل قول الحق سبحانه: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم». مساواة كاملة هذه الدعوة القرآنية للبشر جميعاً- كما يقول د. أبو عاصي- تفتح باب التعارف والتلاقي الإنساني بين الناس على مصراعيه ليعرف الناس بعضهم بعضاً، ويتقاربوا، ويفهم كل واحد منهم الآخر، ليكون هذا «التعارف» سبيلا إلى تلاقح الأفكار، وتبادل الآراء، والتنافس في مجال العمل من أجل مصلحة الإنسان أينما كان.. فضلاً عن التنافس في مجال الخير، وفي مجال الإيمان.. «إن أكرمكم عند الله أتقاكم».وهنا يقضي القرآن على كل صور العصبية العرقية والعصبية الدينية، فلا تمييز لأحد على أحد بجنسه ولا بلونه ولا بعرقه، ولا غطرسة ولا كبرياء، بل مساواة كاملة بين الناس جميعاً، فكل الناس سواسية أمام خالقهم، وهم جميعاً ينتمون إلى أصل واحد، ومصدر واحد، وأكرم الناس عند الله أتقاهم كما قرر القرآن الكريم.والواقع أن احتضان القرآن لرسالات السماء جميعاً، وحديثه عن أهل الكتاب بهذا القدر الكبير من الاحترام والتقدير لهو أكبر دليل على حمله شعلة التسامح، واستيعابه كل الأديان السماوية، وإقراره بضرورة إيمان المسلم بجميع الرسل من دون استثناء، فهو دعوة عالمية إنسانية أخلاقية، لا تعرف التفرقة، ولا العنصرية، ولا الاختلاف، لأن إيمان الأنبياء والرسل إيمان واحد، ودعوتهم واحدة، ومصدر رسالتهم واحد هو الله عز وجل.. يقول الله عز وجل: «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون». دعوة إلى الحوار ويطلق القرآن الكريم الدعوة إلى الحوار بين أتباع الأديان السماوية بهدف تصحيح المفاهيم ليتوحد المؤمنون وجدانياً وعقائدياً.. يقول الحق سبحانه: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون».يقول د. أبو عاصي: هذا الخطاب القرآني الذي يجسد كل صور التسامح والمودة مع الآخر الديني من شأنه أن يقضي على كل صور التنازع والتعصب والتنابز بالألقاب الذي نشاهده بين أتباع الملل والنحل المختلفة التي لا تتخلق بأخلاق القرآن ولا تسير وفق منهجه الإنساني الأخلاقي في التعامل مع الآخر.. وهو بهذا الخطاب السمح يدعو أهل الكتاب جميعاً إلى الالتقاء حول عقيدة واحدة، هي «ألا نعبد إلاّ الله».. وأن نبتعد عما يفرق بيننا وبينكم وهو الادعاء بأن لله شركاء.. وهذا أخطر ما تعرضت له بعض الرسالات السماوية من انحرافات حين اعتقد أصحابها أن الله ليس واحداً وأن له شركاء.. فجاء الإسلام يصحح المفاهيم ليقول: إن الأنبياء وجميع الرسل كانوا إخوة ينتمون إلى عائلة واحدة ويعبدون إلهاً واحداً «ذرية بعضها من بعض». منهج التسامح وهكذا ينشر القرآن في نفوس المؤمنين المعاني الإنسانية والأخلاقية السامية، ويرسم لهم منهجاً يقوم على التراحم والتعاطف والتسامح والترفع عن الأحقاد والضغائن حتى مع الأعداء، ولذلك كانت حضارة الإسلام التي حدد منهجها ورسم خطاها القرآن حضارة إنسانية تقوم على الإخاء الإنساني والتواصل والتفاعل مع الحضارات الإنسانية الأخرى.. وليس أدل على ذلك - كما يقول د. محمد مختار جمعة وزير الأوقاف المصري - من قول الحق سبحانه: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها».. ويقول عز وجل عن أخلاق حامل رسالة القرآن: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين».فالتسامح هو منهج القرآن، والعدل هو طريق القرآن لتحقيق المساواة بين الناس، والمسلم الملتزم بتعاليم القرآن وأخلاقه يضع دائماً قول الحق سبحانه: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى».هذه النصوص القرآنية الكريمة تؤكد- كما يقول د. مختار جمعة- أن القرآن يحترم حرية الإنسان ويقدر عقله، ويترك له الحرية كاملة في اعتناق الدين الذي يستريح له ضميره، وفي منهج القرآن لا يُكره أحد على اعتناق الإسلام وذلك على عكس ما يشاع من أنه انتشر بالسيف.ويقول: كان استخدام المسلمين للسيف فقط لرد العدوان، لأنهم اضطهدوا وحوربوا منذ العهد الأول للدعوة الإسلامية سواء كان ذلك في مكة المكرمة حيث أجبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة إلى المدينة المنورة، وعندما استقر الأمر للمسلمين وأقاموا في المدينة المنورة توالت الهجمات عليهم، وكثرت المؤامرات ضدهم من الداخل والخارج فكان لا بد لهم من الدفاع عن أنفسهم وعن دينهم فأذن لهم المولى عز وجل بقتال أعدائهم رداً للعدوان، وحماية للدين.. وهنا يقول الله عز وجل: «أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله». رحمة وعدل ولا تتجلى إنسانية القرآن ورحمته وعدله في جملة التشريعات التي تنظم العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أصحاب العقائد الأخرى في حالة السلم فقط؛ بل تتجلى إنسانية القرآن ورحمته وعدله في جملة الأحكام والآداب والأخلاقيات التي يضبط بها سلوكيات المسلمين في أوقات الحروب والصراعات التي يشتد فيها غضب الإنسان وتسيطر على نفسه الرغبة في الانتقام.. ولذلك خلت حروب المسلمين مما نراه الآن من قسوة، وانتقام بشع، وإهدار لأبسط حقوق الإنسان على أيدي دعاة المدنية والحضارة وأدعياء حقوق الإنسان.يقول د. عبد الرحمن العدوي، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، من أبرز الحقوق التي كفلها القرآن للإنسان؛ المعاملة الإنسانية الكريمة لمن يقع أسيراً في أيدي المسلمين أثناء الحروب والمواجهات المسلحة بين المسلمين وغيرهم.ويضيف: تنطلق المعاملة الإنسانية الكريمة للأسرى في أوقات الحروب من الآداب والأخلاق التي ألزم القرآن بها المسلمين أثناء الحروب، حيث وضع للحرب آداباً ومعايير لا مثيل لها منها أن يكون رد العدوان بمثل ما حدث به العدوان، وذلك حتى لا يستبيح الناس في الحرب غير المباح، ولأن الحرب في منظور القرآن هي جراحة استثنائية يجب الوقوف في آلياتها ومقاصدها ونطاقها عند المداواة للداء الذي فرضها من دون الآليات والمقاصد التي توسع أبوابها.. ولذلك جاء في القرآن الكريم قول الحق سبحانه: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين». تفوق حضاري ومن جوانب التميز والتحضر في فلسفة القرآن في قضية الأسرى أنه يميز بين المقاتلين وغير المقاتلين، فيجعل الأسر للمقاتلين فقط بينما غير المقاتلين، خاصة الأطفال والنساء، لا يجوز أسرهم طالما لا يخشى المسلمون ضرراً من تركهم أحراراً.ومن هنا لا يمكن مقارنة ما قدمه القرآن من عطاء حضاري وإنساني في التعامل مع الخصوم أثناء الحروب وبين ما يرتكبه دعاة المدنية والحضارة وحقوق الإنسان من جرائم يندى لها الجبين أثناء الحروب فهم من واقع ما نراه يرتكبون أبشع الجرائم أثناء الحروب، فأسلحتهم الحديثة والفتاكة لا تفرق بين المدنيين والمقاتلين، ويحصدون بهذه الأسلحة أرواح الكبار والصغار والنساء وهم داخل بيوتهم وأثناء قيامهم بأعمالهم، بل طالت أياديهم الملوثة بالدماء أرواح المصلين داخل المساجد والمرضى والأطباء داخل المستشفيات.والقرآن وهو دستور شامل يتميز بالعدالة والكرامة لا يقر إهانة أسير حيث توجب الشريعة الإسلامية معاملة أسرى الحرب معاملة إنسانية، تحفظ حقوقهم، وتصون إنسانيتهم.
مشاركة :