أزمة التشكيل المتعسّر للحكومة اللبنانية العتيدة، مثل معظم الأزمات السياسية التي عرفها لبنان في تاريخه السياسي، تقوم على تهريب الحقائق و«تجهيل» الفاعل. الجميع تائه بين مطالب الكتل التوزيرية والأحجام التمثيلية التي ترى أن من حقّها النضال من أجل الحصول عليها. هذا في الظاهر. وهذه هي الصورة التي ترى التيارات اللبنانية المتصارعة أن من مصلحتها إبرازها، مقابل التغطية على جوهر الأزمة الذي لا يودّ أحد - ربما - الخوض فيه علناً. إذ لا أحد من اللاعبين الذين أوهموا اللبنانيين بأنهم «أسياد» حلباتهم الطائفية والسياسية، يرضى بإذلال كبريائه، والاعتراف بأنه «بيدق شطرنج» يؤمر فيأتمر... وتصدر إليه «النصائح» فينصاع. لا أحد ممّن يعرضون عضلاتهم على شاشات التلفزيون، ويتفاخرون بقوتهم محلياً وإقليمياً، يناسبه التواضع إلى حد الإقرار بأن خيوط اللعبة أكبر منه. ولا أحد يناسبه القول إن «السيناريو» الإقليمي المستقوي به... أيضاً ينتظر جلاء مشهد دولي مرتبك وقاتم وضائع بين عقوبات انتقامية، وفجوات وفراغات دولية، وتستّر تكتيكي، وانتظار مقلق لانتخابات نصفية أميركية قد تحدد الأحجام - وأكثر من الأحجام - في واشنطن. أحدث «البدع» التي طرأت على المسرح السياسي اللبناني، وسط المهرجانات السياحية الصيفية، التلويح بخطوة رئاسية «حاسمة» لإنهاء حالة المراوحة في تشكيل الحكومة. ورافقت «التلويح» التهديدي الموجّه لرئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري حملة ابتزاز إعلامية وقانونية مركّزة من جهات ولاءاتها السياسية والأمنية معروفة لمعظم اللبنانيين. وعبر إثارة ملف اللاجئين والنازحين السوريين، ثم سحبه فعلياً إلى الأجهزة الأمنية من حكومة «تصريف أعمال»، بات كل وزير طموح فيها يقرّر ما يشاء بمعزل عن «المسؤولية الجماعية» المفترض توافرها في أي دولة تحترم نفسها. لكن هذا الوضع الشاذ لم يولد البارحة، بل وُلد مع التوافق «الفوقي» اللامنطقي على انتخاب أفرقاء من معسكر سياسي رئيس جمهورية من معسكر آخر يهدف عملياً إلى إلغائهم. نية الإلغاء كانت واضحة من أمرين: الأمر الأول، مبادرة تيار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى إطلاق وصف «الرئيس القوي» عليه، ما يعني ضمناً أن الرؤساء الذين انتخبوا قبله بموجب «اتفاق الطائف»، الذي بات جزءاً لا يتجزأ من الدستور، «رؤساء ضعفاء». ويُذكر أن عون كان - ولعله ما زال - رأس معارضي «اتفاق الطائف». ولاحقاً، لدى تشكيل اللوائح الانتخابية قبيل الانتخابات البرلمانية الأخيرة كان ثمة حرصٌ من قبل التيار العوني، الذي يترأسه حالياً وزير الخارجية جبران باسيل، صهر الرئيس، على استخدام وصف «القوي» في معظم اللوائح التي ضمّت مرشحي التيار. الأمر الثاني، إنه على الرغم من قبول التيار العوني وتكتل «الثنائي الشيعي» (أي «حزب الله» وحركة «أمل»)، الذي كان القوة الدافعة لترشيح عون رئيساً، بتسمية زعيم تيار «المستقبل» سعد الحريري لرئاسة الحكومة، فإن الحريري سرعان ما حوصر بطلبات يعتبرها كثيرون - بمَن فيهم الرئيس المكلّف نفسه - طلبات تعجيزية الغاية منها إحراجه لإخراجه. والحقيقة، أنه بمجرّد صدور التكليف الرسمي، الذي أسهم فيه بقاء كتلة الحريري أكبر كتلة ممثلة للمسلمين السنّة بعد الانتخابات الأخيرة، بدأ مسلسل الضغوط الإحراجية الإخراجية في اتجاهين؛ الاتجاه الأول يتصل بالحجم التمثيلي للكتل النيابية، بما فيه إصرار رئيس الجمهورية على أن تكون له حصة كبيرة خاصة به من الوزراء، بجانب حصة تياره. والاتجاه الثاني سياسي، من أخطر أبعاده ومضامينه تجاهل اعتراضات الرئيس المكلّف... والمضي قُدماً في «تطبيع» التيار العوني، وطبعاً «الثنائي الشيعي»، العلاقات مع النظام السوري. منذ بعض الوقت يتحدّث الإعلام اللبناني، المحسوب على هذا المعسكر أو ذاك، عن وجود ثلاث عُقد وراء تعسّر تشكيل الحكومة الحريرية المنتظرة. - العقدة الأولى «عقدة مسيحية» تتعلق بالحجم الذي تطلبه كتلة حزب «القوات اللبنانية» بعد نجاحها النسبي اللافت في انتخابات الربيع الماضي، وهو حجم يرفضه التيار العوني ومناصرو رئيس الجمهورية. ومعلومٌ أن «القوات» تشكِّل راهناً أقوى قوة مسيحية تناوئ حزب الله و«محور دمشق - طهران» وترفض التطبيع مع نظام بشار الأسد. - العقدة الثانية يسميها التيار العوني وداعموه «العقدة الدرزية»، والسبب إصرار هؤلاء على توزير حليفهم الوزير طلال أرسلان من حصّة الموحّدين الدروز (3 وزراء) مع أنه وحده يمثل معارضي الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط الذي لديه ولدى حلفائه 7 نواب من الدروز من أصل 8. وثمة من يقول إن وراء إصرار فريق رئيس الجمهورية على توزير أرسلان إرضاء نظام الأسد من ناحية، وشق صفّ الموحّدين الدروز من ناحية ثانية. - العقدة الثالثة عقدة «سنّية»... ولا تختلف كثيراً عن سابقتها الدرزية، لكنها تتصل بحلفاء حزب الله ونظام الأسد من النواب السنّة الذين انتخبوا أخيراً. وجلّ هؤلاء فازوا بأصوات «الثنائي الشيعي» ومناصري رئيس الجمهورية من المسيحيين، واستفادوا من استنكاف نسبة من مناصري تيار «المستقبل» عن التصويت اعتراضاً على تحالف الحريري انتخابياً مع التيار العوني في الربيع الماضي. بالأمس، اتخذت الأزمة السياسية بعداً «قانونياً» عندما «اجتهد» أحدهم في مطالعة قانونية فأجاز لرئيس الجمهورية التدخّل لإنهاء أزمة التشكيل، وصولاً إلى سحب التكليف من الرئيس المكلّف. وقرّر هذا «الأحدهم» أن خطوة كهذه من رئيس الجمهورية «ستكون ضمن الدستور ولا تشكل خرقاً له أو لاتفاق الطائف!». بطبيعة الحال، استثار هذا الاجتهاد اجتهاداً مضاداً من مرجع قانوني، هو أيضاً وزير سابق، لم يكتفِ برفضه، بل ذهب أبعد من ذلك ليقول إن الحل يتمثل في طي صفحة «اتفاق الدوحة»، الذي فُرض على لبنان تحت ضغط احتلال حزب الله وأتباعه وحلفائه وسط بيروت نحو سنة ونصف السنة، ومن ثم، العودة إلى أحكام الدستور واعتمادها نصاً وروحاً في ما يخصّ تأليف الحكومة. نعم... و«روحاً» قبل «نصاً»، إذ لا وفاق ممكناً مع الذين لا يؤمنون به، ولا حكومات مع الذين لا يعبأون بها، وحتماً... لا وطن للذين لا يستحقّون أوطاناً. * نقلا عن "الشرق الأوسط"
مشاركة :