ماذا يريد السعوديون من الميزانية؟ إنّه السؤال الأهم الذي يريد الجميع أنْ تترجم نتائجه على أرْض الواقع، دون ما يتم تدوينه في طيّاتِ آلاف التقارير، ولا أُبالغ أنّه قد يكون الوحيد أيضاً. أغلبية الأفراد لا يعنيهم كثيراً الخوض في التفاصيل، بقدر ما يهمّهم بالدرجة القصوى أنْ تتوافر أمامهم الخيارات الإنمائية المثلى كافّة؛ في مقدمتها: (1) توافر فرص العمل الكريمة للمواطنين والمواطنات في سن العمل. (2) ارتقاء أداء قطاعات الصحة والتعليم والنقل والكهرباء والمياه والصرف الصحي وبقية الخدمات البلدية لمستوى احتياجات الفرد والأسرة. (3) سهولة الحصول على المسكن. (4) هذا بالإضافة إلى ضرورة رفْع مستوى العناية بما يليق فعلياً تجاه الشرائح الاجتماعية الخاصّة كالمتقاعدين والأرامل والمطلقات والفقراء والعاطلين عن العمل وذوي الاحتياجات الخاصّة. وبالنّظر في أرقام الميزانية الحكومية طوال أكثر من أربعة عقودٍ زمنية ونصف العقد مضتْ، ومساهمتها الكبيرة في الدفع بعجلة الاقتصاد الوطني، نجد أنّها تحتل المرتبة الأولى كأهم العوامل المؤثرة في الأداء الاقتصادي أولاً، ومستوى الإنماء المتحقق ثانياً، ويمتد أثرها إلى مختلف أوجه النشاط الاقتصادي المحلي دون استثناء لأي نشاط. من هنا تستمد الميزانية أهميتها القصوى على المستويات كافة، يأتي في المقدّمة إنسان هذا الوطن العزيز، متطلعاً إلى ترجمة كل تلك المعطيات الإيجابية في الوقت الراهن إلى ما يحفّزه بصورةٍ أكبر على المشاركة الفاعلة في بناء ونهضة وطنه ومجتمعه. وأظهرتْ دراسات "قياس كفاءة الأداء" بالنسبة لقطاعات التعليم والخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية والنقل والخدمات البلدية والمياه والزراعة والصناعة والموارد الاقتصادية الأخرى خلال الفترة 2011-2007، انحصار مؤشرات أدائها بين 13.5 في المائة كحد أدنى إلى نحو 24.1 في المائة كحد أعلى. إنّها- ولا شك- نسب متدنية جداً، لا ترتقي أبداً إلى الاعتمادات القياسية التي وقّعتها الدولة لأجل الإنماء الشامل والمستدام في البلاد، يكفي القول هنا أنّ إجمالي ما تم اعتماده منذ بدء خطّة التنمية الثامنة مروراً بخطة التنمية التاسعة التي تكمل أربع سنواتٍ منها بنهاية العام الجاري بلغ 1.8 تريليون ريال، تضمّنتْ أكثر من 22.6 ألف مشروع حكومي، فيما لم تتجاوز قيمة المشروعات التي بدئ في تنفيذها للفترة نفسها سقف 1.1 تريليون ريال (59.0 في المائة من قيمة الاعتمادات)، ووفقاً للتقارير الصادرة عن الغرف التجارية وورش العمل التي تعقدها سنوياً، عانتْ المشروعات الحكومية تحت التنفيذ من التعثّر والتأخّر بنسبٍ تراوحتْ بين 10 في المائة إلى نحو 40 في المائة، وهو ما يزيد من الضغوط على تسارع حركة الإنماء، ويتسبب في بطء تقدّمها بالصورة المستهدفة، ويتأخّر كثيراً عن الضخّ المالي القياسي غير المسبوق المخصص للمشروعات. تتزاحم الاحتياجات الإنمائية المتنامية العدد والحجم، أمام الوفورات والإمكانات والموارد القياسية، ووفقاً للمعرفة التامّة بالقدرة الهائلة التي تتمتع بها تلك الإمكانات والموارد المتاحة على تلبية تلك الاحتياجات الإنمائية، سيبرز هنا أهمية "حُسْن الإدارة والتدبير" و"ضرورة القضاء على الفساد"، كأهم عاملين يجب أن يتوافرا لدى "الماكينة" المسؤولة عن تحقيق النجاح المنشود لتلك المعادلة بين الاحتياجات الإنمائية من جهة، والإمكانات والموارد المتاحة من جهةٍ أخرى! وكما تُظهر نتائج ومؤشرات عملية "قياس كفاءة الأداء" المستندة إلى الأرقام الرسمية للميزانيات وخطط التنمية، فإنّ انخفاض مستوى العاملين المشار إليهما أعلاه: (1) حُسْن الإدارة. و(2) مكافحة الفساد. هما الطريقان الواجب الإسراع في تعزيزهما، والارتفاع بمستوياتهما بصورةٍ أكثر تركيزاً وجدّية. لا يجب أن يظنّ المرء هنا أنها مهمةً يسيرة التنفيذ؛ إنّها تقتضي جهداً طويلاً وشاقا، وعمْقاً بعيداً في الكثير من التفاصيل، تبدأ مهامها من أوّل فقرةٍ مرسومة في السياسات والبرامج الاقتصادية، مروراً بآليات تنفيذها ومتابعة تحقيقها على أرض الواقع، وانتهاءً بإجراءات المراقبة والمراجعة والمحاسبة. وهو ما يمكن القول عنه هنا؛ أنّه الشغل الشاغل لدى كثير من الكتّاب والمهتمين، يحذوها جميعها الأمل الكبير بتحقق التقدّم على مختلف مستوياتها. إنّ (الماكينة المسؤولة عن تحقيق النجاح المنشود لتلك المعادلة بين الاحتياجات الإنمائية من جهة، والإمكانات والموارد المتاحة من جهةٍ أخرى) باختصارٍ؛ هي المنطقة المسؤولة مسؤولية كاملة عن الإجابة على سؤال المقال: ماذا يريد السعوديون من الميزانية؟ ولكي تُجيب إجابةً تلامس درجة النجاح أو تتجاوزه، فلا بد أنْ يتسم فعلها وأداؤها بـ (1) حُسْن الإدارة والتدبير و(2) مكافحة الفساد والقضاء عليه. تحقيق الاستقلال عن النّفط تُرى إلى أيّ مدى وصلت إليه عوائد النفط المرتفعة في "ترقيع" التشققات في السياسات الاقتصادية القائمة؟ وإلى أيّ مدى يمكن لها أنْ تستر واقعاً يبعث على القلق الشديد بمجرّد انخفاض السعر إلى 60 دولارا أمريكيا للبرميل، أو ما دونه؟ ما "الترقيع" الذي بيد النّفط هنا؟ وما التشققات المستورة في رداء السياسات الاقتصادية؟ رغم أنّ الحديث يمسُّ عمقاً اقتصادياً معقّد التفاصيل، إلا أنه لا بد من تبسيطه بما لا يُخل بسلامة التحليل. أثبتتْ مسيرة الاقتصاد الوطني طوال أكثر من أربعة عقودٍ مضتْ: (1) أنّ اعتماده على النفط ظل يزداد عقداً بعد عقد. (2) أنّ السياسات الاقتصادية أمام تزايد حجم الاقتصاد والتحديات الجسيمة التي يواجهها، وتعاظم المتطلبات الإنمائية للمجتمع، أصبحتْ أقل شأناً من أنْ تنجح حتى في مجاراة أدنى التحديات أو المتطلبات، بل إنّ بعضها تحوّل إلى عقبةٍ كأداء في طريق استثمار الفرص والمبادرات الواعدة لدى الشرائح الشابة في المجتمع. إلى أي مدى يمكن استمرار دعم الميزانية للاقتصاد الوطني؟ اعتمدتْ الميزانية العامّة طوال 45 عاماً مضى ولا تزال في جانب إيراداتها على عائدات النفط، ولم يتنازل هذا الاعتماد طوال تلك الفترة الطويلة عن تسعة أعشار إجمالي الإيرادات. لهذا حضر ويحضر بقوةٍ التأثير الكبير لأي تغيرات تطرأ على الأسعار العالمية للنفط ليس فقط على الميزانية العامة، بل على الاقتصاد الوطني بأكمله وأدائه، إذْ تراوحت نسبة الإنفاق الحكومي إلى الاقتصاد خلال النصف الثاني من الفترة بين ثلاثة أعشاره إلى أربعة أعشاره، وهو أدنى من نسبه القياسية التي بلغها خلال النصف الأول من الفترة، التي وصلت إلى أكثر من نصف حجم الاقتصاد آنذاك. تستمد أهمية التركيز على العلاقة بين الميزانية العامّة والاقتصاد الوطني، ودراسة الأثر التبادلي بينهما، من عدة اعتباراتٍ بالغة الأهمية! لعل من أبرزها: (1) توطيد وتعزيز الاستقرار الاقتصادي. (2) تنويع ركائز النمو الاقتصادي المحلي، والعمل على خفْض اعتماده على النفط. (3) ومن ثم خفْض المخاطر المؤثرة على الأداء الاقتصادي. مع التأكيد على أنّ بين هذه المحاور الرئيسة، تكمنُ الكثير من التفاصيل المهمّة جداً، التي تكشف النقاب عن آثار السياسات الاقتصادية الراهنة، ومدى جدواها (نجاحها أو فشلها). قبل أن تتبيّن لنا العلاقة الراهنة بين الميزانية والاقتصاد، لا بد من معرفة تفاصيل كلٍ منهما. بالنسبة للميزانية: تُقدّر إجمالي إيرادات الدولة خلال الفترة 1970-2014م بأكثر من 14.5 تريليون ريال (12.4 تريليون كإيرادات نفطية ( 86 في المائة من إجمالي الإيرادات)، ونحو 2.1 تريليون كإيرادات أخرى (14 في المائة من إجمالي الإيرادات)، فيما تُقدّر إجمالي المصروفات لنفس الفترة بأكثر من 12.8 تريليون ريال 9.3 تريليون كمصروفات جارية (72 في المائة من إجمالي المصروفات)، و3.6 تريليون كمصروفات رأسمالية (28 في المائة من إجمالي المصروفات)، مؤدّى كل ذلك على مستوى الميزان المالي نتج عنه فائض للفترة بلغ 1.7 تريليون ريال. أمّا بالنسبة للاقتصاد الوطني، فوفقاً لإحصاءاته بالأرقام الثابتة، فقد تراجعتْ نسبة القطاع النفطي إلى إجمالي الاقتصاد من 55.6 في المائة بنهاية 1970، إلى 47.9 في المائة بنهاية 1980، ثم إلى 35.7 في المائة بنهاية 1990، ثم إلى 21.7 في المائة بنهاية 2012. في المقابل ارتفعتْ نسبة القطاع غير النفطي لنفس السنوات حسب الترتيب الزمني من 44.4 في المائة، إلى 52.1 في المائة، ثم إلى 64.3 في المائة، ثم إلى 78.3 في المائة. وبالنسبة للقطاع الخاص الذي يعوّل عليه أخذ زمام الأمور، ليكون هو محرّك النمو الاقتصادي، فقد جاءت نسب تطوره، وفقاً لنفس الترتيب الزمني أعلاه، من 26.4 في المائة، إلى 36.8 في المائة، ثم إلى 41.4 في المائة، ثم إلى 58.1 في المائة. لا شكّ أنّ نسب تطور القطاع الخاص إلى حجم الاقتصاد الوطني تظهر أداءً لافتاً، لكنّها في الوقت ذاته تعجز عن تفسير أسباب استمرار الاعتماد الكبير على إيرادات النفط بتلك الصورة التي أظهرتها تطورات الميزانية (تسعة أعشارها من إيرادات النفط)، إذْ على أقل تقدير كان يؤمل أن يصاحب هذا النمو اللافت في نسب القطاع الخاص إلى الاقتصاد الوطني، نمو في مساهمة الإيرادات غير النفطية في الميزانية! هل نحن نكشف سرّاً إنْ قلنا أنّ القطاع الخاص قام في أغلبه على: (1) زيادة اعتماده على الإنفاق الحكومي (المناقصات)، و (2) زيادة الواردات من الخارج، وبيعها بالتجزئة في السوق المحلية، و(3) زيادة استقدام العمالة الوافدة من الخارج ذات المهارات والتأهيل العملي المتدنية مستوياتها. كل تلك العوامل المفسّرة تبيّن لك نتائج لم ولن يكون لها أي أثرٍ إيجابي على الأداء الاقتصادي! كيف؟! (1) مدفوعات الحكومة المباشرة على المناقصات، يذهب جزء منها لا يستهان به إلى جانب أجور العمالة الوافدة، ومن ثم يتم تحويله للخارج. (2) مدفوعات الحكومة (الجارية) سواءً عبر مشترياتها المباشرة، أو عبر الرواتب المدفوعة إلى موظفيها، تذهب في أغلبها إلى شراء الواردات من الخارج، ومن ثم تتسرّب هي بدورها إلى الخارج، إضافةً إلى الأجور المدفوعة للعمالة الوافدة التي تشغل أغلب وظائف نشاط التجزئة. (3) هامش المدفوعات المتبقّي بيد القلّة من ملاك تلك المنشآت (التشييد والبناء، أو نشاط التجزئة) إمّا يتم تخزينها في السوق العقارية (مبان، أراض)، وإمّا أنْ تتجه إلى التعامل بصيغة المضاربات في أي سوقٍ يتاح أمامها المجال فيه لممارستها، أو أن تتسرّب إلى الخارج بحثاً عن أسواق خارجية للاستثمار، وجزءٌ قليل منها يتجّه إلى تأسيس أو توسعة استثمارات محلية، وإن حدث ذلك فهي لن تذهب بعيداً عن النشاطات القائمة محلياً الأكثر جاذبية وربحية. تقتضي التحديات التي يمر بها الاقتصاد الوطني، ويُتوقع أن تتسع دائرتها مستقبلاً بصورةٍ أسرع، وتحت هذه الصورة الهيكلية المشوّهة، أنْ يتم إعادة بناء الأمور من الأساس. ذلك أنّ جزءاً كبيراً من إفرازاتها السلبية (تفاقم معدلات البطالة بين المواطنين، ضعف مستويات الدخل، أزمة الإسكان، ضيق الفرص وقنوات الاستثمار المحلية، ضعف قاعدة التنويع الاقتصادي، ضعف البيئة الحاضنة لنمو المشروعات الناشئة الصغرى والمتوسطة، إلخ) ليستْ إلا انعكاساً مريراً لتلك العلاقات المقلوبة داخل اقتصادنا المحلي، لعل أوّلها ما أتحدّث عنه هنا، ممثلاً في العلاقة بين الميزانية والاقتصاد! التي متى ما بدأت في عكْس سيرها، أؤكّد أنّ بقية العلاقات الداخلية اقتصادياً ستبدأ هي بدورها في عكْس مساراتها بالصورة المأمولة. وهو ما تم التطرّق إليه سابقاً في سياق الحديث عن ضرورة إيجاد رؤية اقتصادية شاملة، تستهدف التأسيس الرشيد للاقتصاد الوطني، والعمل على إيجاد تثبيته على مساراتٍ تحقق تلك الأهداف المشار إليها هنا. هل نعمل على رفْع الإيرادات غير النفطية أمْ نخفّض المصروفات؟ أيّهما يعد الأهم بالنسبة لنا اقتصادياً ومالياً؛ رفْع مستوى الإيرادات الأخرى غير النفطيّة، وخفْض الاعتماد على الإيرادات النفطية؟ أمْ خفْض المصروفات (تحديداً الجارية منها)؟ أطرح هذا السؤال، لا لنقف عند مجرّد الإجابة عليه، والبحث في حيثيات إجابة كل فريقٍ سيذهب إليه أحد الجانبين، إمّا رفْع مستوى الإيرادات غير النفطيّة، أو خفْض المصروفات. إنّ الأهم في مواجهة هذا السؤال المحوري، هو ضرورة الغوص فيما وراء الإجابة، والتعمّق جيّداً في أعماق الاقتصاد الوطني، لعل من أهم النتائج التي أريد الوصول إليها هنا، هو: لماذا أسمح بوصولي إلى هذه المرحلة المعقدة جداً في خياراتها؟ ألمْ يكن من الأجدر أنْ أتجنّبها مبكراً، خاصةً أنّ الإمكانات والموارد اللازمة لفعل ذلك متوافرة لدي؟ إنّه سؤال يثير القلق والاختلاف حال بحث المرء عن إجابةٍ له، فما بالك إنْ أصبح تحدياً حقيقياً ماثلاً أمامك؟ المفيد جدّاً، أنّ قيامك بدارسة الاحتمالات المستقبلية للحالة التي أنت عليها الآن، يتيح لك خياراتٍ أوسع نطاقاً، بما قد يؤهلك لتجنّبها تماماً، وتغيير مستقبلك بالكامل، والاتجاه به نحو آفاقٍ مستقبلية أفضل بكثير، لم تكن لتصل إليها على الإطلاق، حتى إنْ لم تحدث تلك الاحتمالات التي تخشاها اليوم، بل حتى لم تكن لتصل إليها أبداً مع الامتيازات الهائلة التي تتمتّع بها في الوقت الراهن! دعْنا نخوض هذه التجربة المثيرة، في سياق إجابة السؤال الذي استهللت به هذا الجزء من التقرير. تبيّن الإيرادات الأخرى غير النفطيّة الفعلية لآخر عامٍ مالي 2014 البالغة نحو 115.1 مليار ريال، أنّها في مواجهة كامل فاتورة المصروفات الفعلية لنفس العام المالي البالغة نحو 1.1 تريليون ريال، لا تُشكّل أكثر من 10.5 في المائة! وأنّ عجزاً مالياً هائلاً سينتج بين البندين سيبلغ أكثر من 984.9 مليار ريال (يُشكّل نحو 35.0 في المائة إجمالي الناتج المحلي بنهاية 2014). وعلى افتراض أننا أخذنا بوجهة نظر "خفْض جانب المصروفات"، فقمنا بشطب كامل المصروفات الرأسمالية المقدّرة لنفس العام بنحو 340.6 مليار ريال، بمعنى عدم الإنفاق على أية مشروعات جديدة، فإنّ العجز المالي سيظل مرتفعاً (سيبلغ نحو 644.3 مليار ريال، مشكلاً نحو 22.8 في المائة إجمالي الناتج المحلي، ولا تغطّي تلك الإيرادات غير النفطيّة أكثر من 15.2 في المائة إجمالي المصروفات الجارية). أذكّر أن الحديث هنا حول مجرد احتمالات، الهدف منه اختبار مقدرتنا المالية والاقتصادية على مواجهة أسوأ الاحتمالات، ومحاولة الخروج منها بخلاصاتٍ ذهنيّة رشيدة، يؤمل أن يتم توظيفها على النحو المصحح والمعالج لأية اختلالاتٍ أو تشوّهاتٍ قائمة في الوقت الراهن. كما يبدو مما تقدّم، أنّ خفْض بند المصروفات لن يكون كافياً على الإطلاق، على أنّه لا يمكن تجاهل الآثار السلبية لمثل هذا الإجراء، التي قد يصل بعضها إلى درجةٍ من الخطورة لا يمكن تصوّر آثارها المدمرة، كشطب المصروفات الرأسمالية اللازمة لاستكمال البنى التحتيّة أو تطويرها، أو محاولة التصرّف جزئياً بالخفْض في بند المصروفات الجارية، التي يتشكّل أغلبها من الأجور ومصروفات الصيانة. قد يكون المتاح أمامنا في هذا الجانب، هو الترشيد في الإنفاق قدر المستطاع، وزيادة الرقابة على كل ريالٍ يتم إنفاقه، ولكن يظلّ غير كافٍ كما توضحه الأرقام الفعلية للميزانية المبيّنة أعلاه. نأتي للخيار الأوّل: رفْع مستوى الإيرادات الأخرى غير النفطيّة، الذي يبدو أنّه المجال أوسع خياراتٍ، وأقلّها تكلفة، وأهونها على مستوى الآثار. السؤال الآن: كيف لنا فعْل ذلك؟ هل هو عبر رفْع الرسوم الحكومية؟ وفرْض ضرائب على الدخل؟ أو سنجده في غيرها من الاقتراحات "المرّة المذاق" التي دائماً ما يضمّنها صندوق النقد الدولي في توصياته المرسلة إلينا! أمْ أنّ هناك مساراتٍ أخرى بديلة يمكن المضي فيها قُدماً؟ سينتج دون شك عن خيارات "صندوق النقد الدولي" كرفع الرسوم الحكومية، وفرْض ضرائب الدخل، وغيرها من المقترحات في ذات الاتجاه، ارتفاعاً في مستوى الإيرادات غير النفطيّة. لكن، هل ستكون كافية؟ هل ستمر دون حدوث آثار سلبية على المواطن والمقيم؟ أعتقد أن الإجابة وفقاً للأرقام الفعلية المبيّنة أعلاه، قادرة تماماً على إيضاح النتائج بصورةٍ مقنعة! فحتى لو تم مضاعفة تلك الرسوم، وفُرضتْ ضرائب الدخل، بصورةٍ تزيد من مستوى الإيرادات الأخرى غير النفطيّة، فلن تلبّي الهدف المأمول! دعْ عنك الآثار السلبية المدمرة في الكثير من جوانبها على حساب دخل المواطن أو المقيم، إضافةً إلى أنّ نتائجه الإيجابية المزعومة، لن تتجاوز في عمرها الأجل القصير، إذْ سرعان ما ستغطى عليها الآثار السلبية في الأجلين المتوسط والطويل. وكي تتجاوز هذا "المطبّ" المعقّد، فلا بد من بعض الإجراءات الواجب اتخاذها مسبقاً، التي يمكن على ضوئها التفكير جدياً بتطبيق مثل هذا الخيار؛ لعل من أبرز تلك الإجراءات: الخفْض التدريجي لمزايا الدعم الحكومي على الطاقة، والسلع الاستهلاكية والزراعية، يقابله الرفع التدريجي للرواتب والأجور في القطاعين الحكومي والخاص، وتفعيل بطاقات التموين اللازمة للشرائح الاجتماعية المستحقة، كما سيأتي تفصيله في الجزء التالي والأخير. السبيل الوحيد للاستقلال عن النفط لا سبيل إلى تحقيقه إلا من خلال العمل الجاد والممنهج المنصب على تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، التي بدورها ستكفل لنا تحقق الأهداف الرئيسة التالية: (1) زيادة الدخل والعوائد الاقتصادية. (2) زيادة المردود على الميزانية العامّة في جانب إيراداتها الأخرى النفطية "الزكاة، الضرائب". (3) زيادة فرص التوظيف والدخل أمام المواطنين والمواطنات. (4) التوظيف الأمثل للاحتياطيات والثروات الوطنية داخل الاقتصاد الوطني. (5) ترسيخ الاستقرار الاقتصادي، وتنويع مصادر نموّه. لكن، ما الآلية لأجل تحقيق تلك الأهداف المهمّة وغيرها من الأهداف ذات الأثر الإيجابي؟ الباب الوحيد لأجل النفاذ إلى تلك الباحة الجميلة، هو حُسن استغلال الإيرادات النفطيّة القياسية التي بيدينا اليوم! والدفع بها داخل أروقة الاقتصاد الوطني وفق رؤية شاملة ثاقبة، التي ستعمل بدورها على خلق مشروعاتٍ متعددة الأغراض، تسهم في تحفيز وتنشيط بيئة الاستثمار المحلية، وتعزز من قدرته على الاستفادة من مزاياه التنافسيّة غير المستغلّة في المرحلة الراهنة كما يجب، تتقدّم عبر النافذتين الفرعيتين الرئيستين (المشروعات العملاقة الممولة من الحكومة بمشاركة القطاع الخاص والتقنية المتقدّمة للاستثمار الأجنبي، والمشروعات المتوسطة والصغرى الممولة والمدعومة من الحكومة)، وتركيزهما على نشاطي الخدمات والصناعة، وفق احتياجات كل نشاطٍ من النشاطين، حسب الإنتاجية والقيمة المضافة ودرجة التركّز والتوظيف، حيث يشكّل نشاط الخدمات حتى نهاية 2014 نحو 54 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، ويساهم بـ 46 في المائة من القيمة المضافة للاقتصاد، ويستحوذ على نحو 67 في المائة من إجمالي العمالة، بنسبة سعودة بلغتْ 30.1 في المائة، تتركّز أغلب وظائف السعوديين في هذا النشاط في القطاع الحكومي، إذْ لا تتجاوز نسبة السعودة بهذا النشاط في القطاع الخاص 18.4 في المائة. أمّا بالنسبة لنشاط الصناعة، فبلغتْ نسبته من إجمالي الناتج المحلي بنهاية 2014 نحو 42.6 في المائة، ومساهمته في القيمة المضافة للاقتصاد 53.4 في المائة، ولم تتجاوز نسبة استحواذه من إجمالي العمالة على أكثر من 28.1 في المائة، وبنسبة سعودةٍ أدنى لم تتجاوز 7.7 في المائة، جاءتْ أعلى بقليل في القطاع الخاص في النشاط بنحو 12.5 في المائة. إذاً؛ أمامنا نافذتان: (1) المشروعات العملاقة الممولة من الحكومة بمشاركة القطاع الخاص والتقنية المتقدّمة للاستثمار الأجنبي. (2) المشروعات المتوسطة والصغرى الممولة والمدعومة من الحكومة، يتوقّع أن تلعب دور المساندة للمشـــــــروعات العملاقة. تتطلّب النافذة الأولى نهجاً مختلفاً مــن السياسات والبرامــــج والإجراءات، تأخذ بعين الاعتبار: (1) تركّزها على المجالات التي يتمتّع فيها الاقتصاد الوطني بالميزة التنافسية. و(2) مجالات وصناعات إحلال الواردات، حسب الجدوى والإمكانات المتاحة؛ في مقدّمتها الموارد البشرية الوطنية. (3) ضخامة حجم رؤوس الأموال لتمويلها، سواءً عبر تمويلها المباشر في رأس المال، أو عبر إتاحة المجال أمامها للاستفادة من التمويل الهائل والمعطّل في سوق الدين (سندات، صكوك). (4) ضرورة بناء نماذج محكمة من الشراكات عالية الشفافية بين الحكومة والقطاع الخاص والشريك الأجنبي، تعزز من رفع كفاءة عوامل الإنتاج (رأس المال "الحكومة"، العمل "القطاع الخــــــــاص"، التقنيـــــــــــة "الاستثمار الأجنبي"). فيما تتطلّب النافذة الثانية ممثلةً في المشروعات المتوسطة والصغرى، جهوداً أوسع وأعمق بكثيرٍ مما هو قائمٌ اليوم! ولا أبالغ بالقول إنّ هذه النافذة تعرّضتْ في السابق لتهميشٍ ونسيان كبير، وزاد العبء عليها أخيراً بأنْ تلقّتْ أقوى الصدمات، التي أدّتْ إلى إنهاء وجودها تماماً، نتيجة لعديد من السياسات (التجارة، العمل، والتمويل). كما أؤكد أنّ التعامل معها، وفقاً لتلك السياسات بحجّة أنّها كانتْ الموطن الأكبر للتستّر التجاري وغيرها من التهم، لم يكن موفقاً إلى حدٍّ بعيد! لهذا تتطلّب جهود دعْم هذا النوع من المشروعاتْ منهجية أخرى، لعل من أبرز عناوينها ما تم المطالبة به منذ أكثر من عقدٍ زمني مضى؛ أن تؤسس لأجلهـــــا "هيئة حكومية مستقلــــــة"، تــتولى وضع خططها وبرامجها، التي تربط أهداف إنشائها باحتياجات الاقتصاد الوطني، وتضعـــــها على الطريق الصحيح، الذي يؤهلها لتلعب الدور المساند للمشروعات العملاقة المذكورة أعلاه، وأنْ تكفل لها سهولة الحصول على التمويل اللازم "لا تتجاوز حصتها من الائتمان المحلي نسبة 1 في المائة من الإجمالي"، ولستُ بصدد مقارنة وضعها المهترئ لدينا بمثيله في عديد من البلدان، ولا بصدد ذكْر أهمية وجودها كلاعبٍ يعزز من تنوّع القاعدة الإنتاجية المحلية، ودورها في توفير الفرص الوظيفية الكبيرة أمام الباحثين عن العمل من المواطنين. خلاصة القول مما مضى، أنّ تدفقاً للثروات المعطّلة خارجياً إلى داخل الاقتصاد الوطني، وفقاً للنافذتين أعلاه، مؤداه تحقق فائدةً أكبر لتلك الثروات لصالحنا، وتحقق للأهداف الرئيسة المبيّنة في مطلع المقال، لعل من أهمّها هو دورها المأمول في دعْم الإيرادات الأخرى غير النفطية، وتخفيفه الاعتماد على إيرادات النفط، بل يتجاوز هذا الهدف إلى تحقيق هدف حُسْن استخدام تلك العوائد، وتوظيفها في مصلحة الاقتصاد الوطني، بما يعزز من قدراته وطاقته الاستيعابية. والله ولي التوفيق. نقلا عن الاقتصادية
مشاركة :