يمكن أن نقول إجمالاً حول تجربة النادي الأدبي إنه ظهر في مرحلة بالغة القسوة عانى خلالها ضعف الإمكانات وانقسام الآراء، ولم تكن المعطيات السياسية والاجتماعية والثقافية المحلية والعربية لمصلحة استمرار النادي في نشاطه وتعميق صلته بالمجتمع. عرفت الكويت منذ نهضتها قبل الاستقلال وبعده ظاهرة إغلاق الأندية وحل المؤسسات والهيئات العامة لأسباب مختلفة، وقد كان «النادي الأدبي الكويتي» المؤسس عام 1924، في مقدمة الأندية التي تعرضت للإغلاق، بعد فترة قصيرة من تأسيسه. وكان المعروف أن العمر لم يمتد بهذا النادي لأكثر من عامين، كما يذكر سكرتير النادي «محمد سليمان العتيبي» في مقابلة بمجلة الرائد، عدد 9-1953، إلا أن للباحث د. عايد الجريِّد رأياً آخر يقول فيه، إن عمر النادي الأدبي امتد في الواقع ثلاث سنوات وأربعة أشهر، وذلك عندما نحسب الفترة الزمنية التي جرت بين افتتاح النادي في 30 أبريل 1924 وبين آخر فعاليات النادي، وهي تكريم الشاعر «خالد الفرج» في 31 أغسطس 1927. ويورد د. الجريِّد في كتابه العديد من الأسباب المباشرة والمحتملة، التي أدت إلى إغلاق النادي وأبرزها: 1- تفاعل أعضاء النادي مع الأحداث السياسية في العالم العربي، حيث «كان أعضاء النادي يتابعون في اجتماعاتهم أحوال البلدان العربية وأخبارها، ونتج عن ذلك أنه بعد عامين من تأسيس النادي تأثر بعض أعضائه بالسياسة، وبما كان يحدث في مصر»، بزعامة سعد زغلول، ويضيف الباحث أن الصحافة المصرية التي كانت تصل إلى الكويت وتطالعها النخبة الأدبية أدت «دوراً رئيساً في هذا الشأن» (ص110). 2- بذل النادي جهده في توسيع العضوية، وحقق نجاحات بين أوساط الشباب المثقفين، وحرص القائمون على تيسير أمر الانتساب فجعلوا الاشتراك مجاناً، فأدى ذلك إلى زيادة إقبال الشباب عليه، كما قدم النادي أنشطة رياضية لأعضائه. ولكن الظروف المالية ساءت، وكان النادي منذ تأسيسه يعاني ضائقة مالية لبساطة إمكانات المشاركين فيه، «خاصة أنه لم يحظ بدعم كبير، كالدعم الذي حظيت به المدرسة المباركية والمدرسة الأحمدية». من ناحية أخرى، كانت الكويت في بداية العشرينيات. يضيف د. الجريِّد، «مقبلة على أزمة اقتصادية حادة بلغت ذروتها في عام 1925»، فقد مُنع تجار نجد والقصيم من السلطات هناك، من الورود على الكويت والتجارة معها وشراء ما يلزمهم من مواد غذائية وكسائية، وذلك بسبب بعض الاختلافات السياسية. وبما أن هذه التجارة كانت تعادل ثلث دخل الكويت الاقتصادي، فقد كان تأثيرها على التجار والناس كبيراً، ولقد انعكس هذا حتى على المدرسة الأحمدية والمباركية، فقد توقفت مثلا الإعانات التي كانت تصل إلى المدرسة الأحمدية، وكان لهذه الظروف تأثيرها على استمرارية النادي. 3- تأثر بعض أعضاء النادي بأفكار تحرير المرأة والمطالبة بفتح مجال التعليم النظامي للمرأة كما للرجل، وذلك في مجتمع شديد المحافظة، حيث إن المسؤولين عن التعليم، يقول الباحث، واجهوا صعوبة حتى في إقناع المجتمع بدخول البنات إلى المدراس النظامية في عام 1937-1938. وقد ذكرنا كذلك حرص أعضاء النادي على ارتداء الملابس الأوروبية، فقانون النادي كان ينص على أن كل عضو ينتمي إلى النادي لابد أن يحضر بالبدلة الإفرنجية، وفي الحفلات الليلية لابد أن يرتدي «بدلة السموكنغ» و«الردنجوت» مثل باشوات مصر، وكان الأعضاء، كما يذكر الشيخ عبدالله الجابر، يرتدون بدلة إفرنجية في كل مناسبة تقام داخل النادي ومعها العقال والغترة. وكان ثمة اندفاع لدى الأعضاء «يريدون التشبه بالمصريين في كل شيء». (ص111). ولا شك أن توجهاً كهذا زاد من عزلة الأعضاء عن عامة الجمهور آنذاك. 4- معاداة الإنكليز لوجود النادي. يقول د. الجريِّد إن مسألة الوجود البريطاني في الكويت والمنطقة كانت مطروحة في النادي، ويضيف أن الذي يؤكد لنا ذلك «أن الشخصيات الإصلاحية التي دعيت للنادي كانت من الذين يرفضون الوجود الغربي في المنطقة، كالشيخ محمد الشنقيطي، الذي كان يميل للدولة العثمانية، وأيضا الزعيم التونسي الشيخ عبدالعزيز الثعالبي الذي قاوم الاستعمار الفرنسي وزج به السجن، كما أن الشاعر خالد الفرج كثيراً ما كان يتطرق في قصائده للاستعمار البريطاني، وكان على اتصال مع شعراء وطنه وهو في البحرين، كالشاعر عبداللطيف إبراهيم النصف والشاعر صقر سالم الشبيب». ويرى الباحث أن بعض التطورات التي جرت في البحرين آنذاك وموقف النادي منها يؤكد استياء الإنكليز، ويقول: «إنه في عام 1345هـ 1926م، قام الميجر كلاف ديلي Major Cliva Daly بالقبض على كل السلطات بالبحرين بيد من حديد، وكبت الحريات، وزج بزعماء (البحرين) في السجون، وقد رجع الشاعر خالد الفرج من البحرين إلى الكويت بعد نفيه من قبل البريطانيين، وأقام (النادي الأدبي) حفلا تكريما له في 4 ربيع الأول 1346هـ 31 أغسطس 1927م، ألقى فيها قصيدته المشهورة (الغرب والشرق)، ومن أبياتها: الغرب قد شدد في هجمته والشرق لاهٍ بعد في غفلته وكلما جدّ بأعماله يستسلم الشرق إلى راحته فيجمع الغربي وحداته والشرق مقسوم على وحدته (النادي الأدبي الكويتي، ص113) ويمكن أن نقول إجمالاً حول تجربة النادي الأدبي إنه ظهر في مرحلة بالغة القسوة عانى خلالها ضعف الإمكانات وانقسام الآراء، ولم تكن المعطيات السياسية والاجتماعية والثقافية المحلية والعربية لمصلحة استمرار النادي في نشاطه وتعميق صلته بالمجتمع. كما لم يكن «الفكر الإصلاحي» نفسه متبلوراً، لا في الكويت ولا في العالم العربي، بما في ذلك مصر والعراق وبلاد الشام، وهي الدول التي شكلت ثقافة النخبة الكويتية. وهكذا بقيت دعوات التغيير خلال تلك الفترة في إطار شعار «الإصلاح» ذي الدلالة الغامضة على الصعيد السياسي، رغم حسن النوايا، فالشيخ رشيد رضا مثلاً كان متحمساً للدعوة السلفية التي كانت هي نفسها في صراع واسع مع السنّة والشيعة والمذاهب الإسلامية، إلى جانب فقدان الدعوة بوصلتها بين الموروث الديني والفكر العلمي المعاصر والعقلانية الحديثة، وكان الشيخ الشنقيطي وآخرون متحمسين للدولة العثمانية واسترداد الخلافة، رغم فشل الدولة العثمانية في تحديث نفسها وتطوير حياة المسلمين، إلى جانب ما كانت تعانيه الدولة من فساد وتخلّف موروثين، وكان المثقفون والمصلحون يريدون تطوير المجتمع واللحاق بالدول المتقدمة والتفوق على الغرب، دون أن يعرفوا أو يتصارحوا في أسباب تقدم الغرب ونجاح ثورته الصناعية واستقراره السياسي، ودون إدراك لمدى استعداد العرب وعموم المسلمين، لدفع ثمن تحديث المجتمع وتطويره بشروط ومستلزمات القرن العشرين. كما كان الكثير من شعراء الكويت والدول الخليجية يرفعون شعارات حماسية غير مدروسة سياسيا واقتصادياً... وهكذا. وقد عانت الثقافة والسياسة طويلاً في الكويت والعالم العربي، ولا تزال، بسبب عدم تقدير حجم الفجوة بين ما نحن فيه وبين ما نتمنى الوصول إليه، وكيفية عبور هذه الفجوة، إلا أن تجربة النادي الأدبي الكويتي رغم كل شيء، في استنتاج د. عايد الجريِّد، أدت دوراً بارزاً في بلورة رؤى أعضاء النادي ونضجهم، وبخاصة بعد احتكاكهم بمفكري ومصلحي العرب، «بالإضافة إلى توافر بيئة مناسبة سمحت لهم بممارسة أنشطتهم الثقافية، من خلال دعم حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح». وكان مؤسسو النادي «حذرين في طرح مشروعهم» الذي «لعب دورا كبيراً في التثقيف والإصلاح، ومواجهة البدع والخرافات، وقد غلب على مواضيعها الطابع الإسلامي، وكان الهدف من ذلك تثقيف الأعضاء بطرق الإصلاح». ومما سبق، يختتم د. الجريِّد كتابه بالقول: «نجد أن النادي الأدبي نجح في رفع مستوى الوعي الثقافي في المجتمع من خلال الأنشطة الثقافية والحوار المباشر والتفكير المشترك، وكان السبب الرئيس في هذا النجاح أن غالبية المؤسسين لتلك المشاريع من الأدباء». (ص 122). لم تنته ملاحم الأندية الثقافية في الكويت بإغلاق النادي الأدبي الكويتي الأول، فقد كان للحرب العالمية الثانية 1939-1945، يقول د. خليفة الوقيان، تأثيرها في نمو الوعي بأهمية وجود المنابر الثقافية، التي يعبر من خلالها المثقفون عن طموحاتهم ومطالبهم في الإصلاح والتطور، ولهذا، يضيف د. الوقيان، «في مطلع عام 1946م سعى عدد من الشباب الكويتيين المبتعثين للدراسة في الخارج لإنشاء نادٍ أدبي يكون شبيهاً بالنادي الأدبي الأول، الذي أسس في عام 1924». ويقول د. الوقيان «تبنى تلك الفكرة وعمل في سبيل تحقيقها كل من: عبدالله يوسف الغانم، مرزوق فهد المرزوق، ود. أحمد الخطيب، إذ قاموا بمخاطبة عدد من المعنيين بالشأن الثقافي في الكويت، وطلبوا مناصرتهم ذلك المشروع الثقافي الوطني». ويضيف: «ثم قام أصحاب الاقتراح بتكليف الأستاذ عبدالله يوسف الغانم أن ينقل إلى والده السيد يوسف أحمد الغانم الرغبة في إنشاء نادٍ أدبي، ليقوم بعرضها على حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح... وقد وافق الشيخ أحمد على فكرة إنشاء النادي. وبدأ المؤسسون بجمع التبرعات، ثم استأجروا بيتا قرب بيت أسرة البحر ليكون مقراً للنادي، غير أن الأعضاء اختلفوا فيما بينهم، فأجهض المشروع في مهده، وكان أصحاب اقتراح إنشاء النادي خارج الكويت آنذاك لاستكمال دراستهم». (الثقافة في الكويت، 165-166) ويستعرض د. الوقيان محاولات أخرى تحت أسماء مختلفة مثل نادي المعلمين 1951 والنادي الأهلي 1951 والنادي الثقافي القومي 1952 وجمعية الإرشاد الإسلامية 1952 ونادي الخريجين 1954. وكانت «الرابطة الأدبية» ثالثة المحاولات الأدبية البحتة، في شهر مايو 1958، عندما «تنادى جمع من المثقفين والأدباء الكويتيين والعرب العاملين في الكويت لتأسيس رابطة تُعنى بالثقافة والأدب بخاصة». وعن أهداف هذه الرابطة يقول د. الوقيان، إنها كانت ضمن الاتجاه القومي، حيث إن استعداد الكويت لاستقبال مؤتمر الاتحاد العام للأدباء العرب في ديسمبر 1958، قد عجل بتأسيس الرابطة، ولم تعمر «الرابطة» طويلاً، يضيف د. الوقيان، «إذ حُلّت مع غيرها من الجمعيات والنوادي في عام 1959». وقد وُلدت «رابطة الأدباء الكويتيين» الحالية عام 1964 في أحضان الرابطة السابقة، وورثت عنها بعض توجهاتها. وقد بادرت الرابطة إلى إصدار مجلة أدبية شهرية وهي «البيان» التي لا تزال توالي الصدور بعد أن «نجحت» لدى انطلاقها من ولادة عسيرة كما يتذكر الأديب الكويتي د. سليمان الشطي! يقول د. سليمان الشطي في ذكرياته عن بدايات الرابطة وإصدار المجلة، وقد نشرت ورقته مع كلمات وأوراق أخرى في كتاب خاص عن اليوبيل الذهبي للرابطة صادر عام 2015. «وصدر العدد الأول في مطلع أبريل 1966، وما كاد العدد الأول يصدر، وقبل أن يرى الكاتبون مادتهم مطبوعة كانوا على موعد مع التسفير، ففي حركة مفاجئة إلى الآن وبخاصة أن بعض من سُفروا عاد مرة أخرى، طال هذا التسفير مصحح المجلة عبدالهادي حماد وعضو هيئة التحرير راضي صدوق. والكاتب علي السيار وخالد أبو خالد، ففقدت المجلة بعد عددها الأول عددا من الكتّاب كنا نعول عليهم في متابعة النشر». (ص49). ونقول في ختام هذه المجموعة من المقالات حول أول نادٍ أدبي في الكويت إنها بحاجة إلى المزيد من التوسعة والتهذيب والشذيب والتعمق والمقارنات وغير ذلك، كما وقعت في بعضها أخطاء مطبعية غير مقصودة ومنها: رقم الحلقة (3)، العمود (2)، السطر (12- 21- 25 - 33)، الخطأ (معرضا- التجريد- الشيخ- المدينة)، الصواب (معارضاً- التحديد- الرشيد- المدنيّة). رقم الحلقة (7)، العمود (4)، السطر (الأخير)، الخطأ (حين)، الصواب (صين- بمعنى عين صناعية) رقم الحلقة (9)، العمود (1)، السطر (الأخير)، الخطأ (الرسيد)، الصواب (الرشيد) رقم الحلقة (10)، العمود (1)، السطر (الأخير)، الخطأ (لعامه)، الصواب (العامة) رقم الحلقة (11)، العمود (4)، السطر (18)، الخطأ (سارح في القدمين)، الصواب (سار حافي القدمين). لقد قدم د.عايد الجريِّد في دراسته للنادي الأدبي الكويتي الأول خدمة كبيرة لتاريخ الثقافة في الكويت، وفصّل باقتدار ما أجمله الآخرون، فحلل بعناية فائقة ظروف تأسيس ذلك النادي والتحديات التي جابهت النخبة المؤسسة له، والقضايا المثارة في تلك المرحلة، ولا نريد الإطالة في هذا المقام، ولا شك أن الكثير من محتويات الدراسة تبرهن من جديد على أن الثقافة كانت، إلى جانب التجارة وغيرها، من اهتمامات الكويتيين، كما كان تأسيس النادي الأدبي الكويتي سنة 1924، وإن لم يستمر طويلا، من أبرز دلائل حرص النخبة الفكرية والسياسية على تأسيس جمعيات النفع العام والمنتديات الفكرية، وهو توجه نتمنى له جميعا الدوام والاستمرار.
مشاركة :