الرواية قصيدة ميتافيزيقية تطرح أسئلة خالدة

  • 8/31/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يؤثر الواقع على الأدب الذي يتفاعل مع كل تفاصيل بيئته، كما أن الأدب ربما هو المحرار الحقيقي للمجتمعات البشرية، يؤرخ ما لها وما عليها، ويصنع لها من ذواتها حكاياتها الخالدة والمؤثرة. في ما يلي حوار مع الروائي الجزائري بشير مفتي، الذي تأثرت أغلب رواياته بالعشرية السوداء في الجزائر وحاول التأريخ لها أدبيا “أجدني متعباً من ذكريات حاولت دائماً نسيانها، والتنكر لها، أو الهرب منها، مع أنها كانت حياة عادية مثل آلاف الناس العاديين الطبيعيين الذين ولدوا في مرحلة ما بعد الاستقلال بخمس سنوات فقط، والذين تأثروا بهذا العنف الثوري والعنف المضاد، دون أن يكون لهم وعي بما حدث وما يحدث أمامهم. أنتمي إلى فترة مصنوعة من عرق ودماء وأحلام جزائريين كثيرين انفجرت في وجوههم شرارات العنف، وحوّلوا عنفهم إلى قوة للخروج من دائرة الاستعباد”. هكذا يقول الروائي الجزائري بشير مفتي في روايته العاشرة “لعبة السعادة” على لسان بطلها مراد زاهر، وأعتقد أن هذا المقتبس يلقي الضوء على هواجس الشخصيات في كل روايات بشير مفتي، فهو يركّز دائما على الإنسان الفرد، فيكون هناك بطلٌ واحد ترصد الرواية حياته وتتابع التغيّرات التي تطرأ عليها، وتبحث عن أسباب اغترابه، وسوداوية رؤاه الشخصية لا الكاتب. شاعرية السواد في عناوين رواياته العشرة ومجموعاته القصصية نقرأ: “غرفة الذكريات”، “المراسيم والجنائز″، “شاهد العتمة”، “بخور السراب”، “أشباح المدينة المقتولة”. المتأمل لهذه العناوين يلحظ حضورا للموت والعدم وانشغال بالماضي/ الذكريات. حضورا للموت والعدم وانشغال بالماضيحضور للموت والعدم وانشغال بالماضي نسأل بشير مفتي عن ذلك فيجيبنا “لقد مرت شعوب كثيرة على الجغرافيا الجزائرية وتركتنا في مواجهة مستمرة معهم ومع ذواتنا، قرن ونصف القرن من استعمار الفرنسيين، وقبلهم الرومان والوندال والأتراك، لقد كان تاريخنا قاسياً وعنيفاً، حتى بعد تحقق الاستقلال في عام 1962 دخلنا في صراعات الإخوة الأعداء، والعنف السلطوي ثم الحرب الأهلية من 1993 حتى 2002 أي لم تنته مشاكلنا مع العنف والسواد”. ويضيف “أظن أنك لا تستطيع إلا أن تكون سوداويا عندما تعيش في تجربة عنف دامت عشرية بأكملها. كان الحديث اليومي فيها عن القتل والمجازر وانفجارات السيارات المفخخة، والتهديد بالقتل، خاصة أني كنت شابا يعمل في الصحافة، والصحافي كان على قائمة المطلوب قتلهم. لم أكن أهتم يومها بالأمر لأني كنت شاباً وأعيش حياتي بشكل ما، ولكن كانت الأجواء مرعبة، والمناخات سوداء داكنة، وربما هناك تفسير نابع من نوعية القراءات التي أدمنت عليها مراهقاً في الفلسفة والأدب والشعر، كنت وجوديا وعبثيا ونيتشويا حتى لو أن اكتشاف نيتشه جاء متأخراً. وأعتقد أن كافكا أثر فيّ كثيرا بروحه الأدبية وليس بأسلوبه الأدبي. وتجد هذا التأثير حتى في تسمية الشخصية الرئيسية برموز مثل ‘س‘ في رواية ‘المراسيم والجنائز‘، أو ‘ب‘ في رواية ‘أرخبيل الذباب‘ وغيرها”. ويتحدث مفتي عن تجربته الروائية، فيقول “نشرت أول رواية لي عام 1997 بعنوان ‘المراسيم والجنائز‘ أي في الفترة التي كانت فيها الجزائر تشهد حربا أهلية مدمرة بين أنصار الجمهورية حتى لو كانت بلباس عسكري، وأنصار الدولة الإسلامية، الحرب كانت قاسية وعنيفة وذهب ضحيتها الكثير من الناس البسطاء والكتّاب وأهل الفن والصحافيين، إنها فترة عنف مدمر كانت خلفية معظم رواياتي. دور الرواية في التأريخ أو الشهادة أو ملامسة بعض الجروح التي عشناها، أحسب أن هذه هي خلفية العناوين التي تبدو معتمة بعض الشيء ولكن سيجد القارئ تبريرات لها داخل النص الروائي نفسه”. وإن كانت السوداوية سببا في النزوع الشاعري في رواياته، يأتي رد مفتي قائلا ”يعجبني تعريف الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو للرواية على أنها ‘قصيدة ميتافيزيقية‘ ويلخص هذا التعريف جوهر الرواية أو الأدب على أنه سؤال ميتافيزيقي خالد يطرحه الفن باستمرار، رغم أن تكويني ودراساتي الجامعية كانت في الأدب العربي إلا أني كنت قارئا نهما للكتب الفلسفية، لأن الفلسفة تعمق من وعينا بالوجود وتوسع من مفردات الحياة والمعاني كما يقول بول ريكور “أظن الأدب مدين للفلسفة بالكثير كما أن الفلسفة تستقي من الأدب الكثير من أسئلتها. هناك علاقة روحية قوية بينهما”. عودة الكلاسيكية عن بداياته التجريبية وإفراط الروائيين المحدثين في التجريب يقول مفتي “شهدت فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي تجارب روائية عربية راهنت على التجريب الشكلي وكسرت أنماط السرد التقليدي. لا يستطيع أي كاتب التملّص من نشر بعض هواجسه في عمله الروائي لا يستطيع أي كاتب التملّص من نشر بعض هواجسه في عمله الروائي وربما حاولت أن تساير موجات التجديد في الرواية الغربية والفرنسية على الخصوص وقدّمت اجتهادات في الشكل والسرد والبناء الروائي لكنها توقفت تقريبا الآن، وهذا بسبب أن سوق الرواية العالمية اليوم وحتى العربية صارت تفرض رواية بمقاييس محددة فيها جانب كبير من مميزات الرواية الكلاسيكية التي هجرتها لفترة قصيرة ثم عادت إليها بسرعة. أنظر ماذا يحب القرّاء القراءة غربيا وعربيا اليوم ستجدهم أكثر تعلّقا بالنماذج الكلاسيكية في الرواية، بل أكثر الروايات العالمية شهرة هي التي تقوم على الحكاية الممتعة، الحبكة المثيرة والشخصية المركزية الآسرة والتشويق”. يتساءل “عزيز مالك” في رواية “غرفة الذكريات”، “ما جدوى الحياة إن كنتُ لا أستطيع كتابة ذلك الذي أحلم به؟” فيبدو وكأنه ينطق بلسان المؤلف، ولا يعرف القارئ إن كانت الشخصية تعبّر عن قناعاتها أم اتخذ منها المؤلف قناعا، نواجه الروائي بذا السؤال فيجيب “لا يستطيع أي كاتب التملّص من نشر بعض هواجسه في عمله الروائي من خلال جميع الشخصيات وليس فقط من خلال شخصية واحدة، فمهما تنوعت وتعدّدت الشخصيات هي في النهاية وليدة الشخص الروائي الذي ابتكرها أو استقاها من الواقع والحياة ويضفي عليها ما يميزها ويبعثر مشاغله وأسئلته فيها حتى تلك الشخصية المكروهة أو الشريرة، أحسب أن دوستويفسكي كان موجودا في شخصياته السلبية أكثر من تلك التي قد تنعت بالإيجابية”. أما عن ميله إلى استخدام ضمير المتكلم في رواياته، فيقول “صراحة لا تفسير لي لاستعمال ضمير المتكلم إلا أنني شخصيا أحب قراءة الروايات التي تستعمل هذا الضمير وتشعرني عند القراءة كما لو أنني أتصفح حياة إنسان من الداخل بأحلامه وكوابيسه وجراحه وهمومه، أظن أغلب القراء يحبون التماهي مع هذا النوع من السرد الروائي لأنه يكسر المسافة بين الراوي والقارئ”. وعن الحضور الدائم للمثقف في كل أعماله يقول مفتي “نعم يحضر المثقف والفنان والكاتب والموسيقي والسينمائي، كما يحضر الشرطي والعسكري ورجل الدين والثوري وابن الحي البسيط، طبعا المثقف هو من يعطي المعنى لذلك الخراب الواقعي، فالمثقف له دور ما في القدرة على التعبير عن قضايا المجتمع والسياسة والواقع بوضوح أكبر”. وعن سلبية المثقف واستحضاره روائيا لإدانته، يقول “المثقف في الجزائر وعالمنا العربي هو أول من يدافع عن القضايا الكبيرة وهو أول من يعلن الهزيمة ويرفع الراية، فهو على الأقل من هذه الناحية يملك شجاعة الاعتراف بالفشل، عندما يكتشف المسافة الواسعة بين ما يحلم به وما يقدر على تحقيقه، وهو قويّ لأن له أفكارا جديدة وجذرية، وهو ضعيف لأنه لا يملك السلطة التي يستطيع بها فرض أفكاره تلك. هو يعيش تمزقا مستمرا بين العالم المثالي والواقع الذي يعيش فيه”.

مشاركة :