النسوية ببساطة هي حركة لإنهاء القمع والتحيز والاستغلال الجنساني. عرضت هذا التعريف في كتابي «النظرية النسوية: من الهامش إلى المركز» منذ أكثر من عشرة أعوام. كنت آمل وقتها أن يصبح تعريفًا شائعًا يستخدمه الجميع. أحببت هذا التعريف لأنه لا يتضمن أي إشارة إلى عدائية الرجل، كما أنه يتجه مباشرة إلى قلب الموضوع بتصنيف الأفكار والأفعال المتحيزة جنسانيًّا كمشكلة، بغض النظر عمن يتبناها أو يمارسها ـ ذكرًا كان أو أنثى، وصغيرًا كان أو كبيرًا. إضافة إلى أنه- كتعريف غير محدود، ويتسع بما يكفي ليخاطب بعمق التمييز الجنساني المؤسسي المنظم، ويؤكد على أن فهم النسوية لا يمكن أن يتحقق بدون فهم التمييز الجنساني. وكما هو معلوم للمدافعات والمدافعين عن السياسات النسوية، فإنَّ معظم الناس لا يفهمون التمييز الجنساني، وحتى عند فهمه لا ينظرون إليه كمشكلة. فيظن عامة الناس أن الحركة النسوية تدور دائمًا وأبدًا حول النساء اللاتي يسعين إلى المساواة مع الرجل، كما يعتقد أغلبية الناس أن الحركة النسوية تنتهج في أصلها العدائية للذكور. وسوء فهم النسوية هذا يأتي في الأصل كنتيجة لمعرفة معظم الناس عنها من الإعلام الأبوي (البطريركي )؛ فالنسوية التي يُسمع عنها أكثر من غيرها تركز على تصوير نساء ملتزمات في المقام الأول بالمساواة بين الجنسين في الأجور ـ الأجر المتساوي مقابل العمل المتساوي وتشارك الجنسين في الأعمال المنزلية وتربية الأبناء. ويرون أن هؤلاء النساء غالبًا ما يكن بيضاوات بامتيازات مادية، كما يقدم إعلام الجماهير الأبوي تحرير المرأة كحركة ترتكز على قانونية الإجهاض، والحرية المثلية، وعلى التصدي للاغتصاب والعنف المنزلي. وفي خضم هذه القضايا تتفق الجماهير على مبدأ المساواة بين الجنسين في مجال العمل ـ الأجر المتساوي مقابل العمل المتساوي. وبما أن المجتمع في معظمه لا يزال متمسِّكًا بثقافته الدينية، فإن الجماهير لم تتخلَّ عن اعتقادها بأن الله أقر تبعية المرأة للرجل في النطاق الأسري. وحتى عندما اتجهت النساء للعمل، وأصبحت النساء ترأسن وتقمن بإعالة العديد من العائلات، لم تنطفئ في خيال الأمة تلك النظرة الدونية للمرأة كتابع، وللرجل كمهيمن، حاضرًا كان أو غائبًا عن محيط المنزل. وبالتالي، فإن المفهوم الخاطئ المتشكل عن الحركة النسوية، والذي يشير إلى عدائيتها للذكور، يحمل معه افتراضًا خاطئًا بأن كل الفضاءات النسائية ستغيب عنها بالضرورة السلطة الأبوية والتفكير الجنساني. وقد انساقت العديد من النساء خلف تلك الافتراضات فصدقتها حتى أولئك المنخرطات في السياسات النسوية. وفي حقيقة الأمر، فلقد كان هناك قدر كبير من المشاعر المعادية للذكور في أوساط الناشطات النسويات الأوائل اللاتي تعاملن مع الهيمنة الذكورية بغضب. ولكن ذلك الغضب النابع من كراهية الظلم أصبح دافعًا قويًّا لحركة تحرير المرأة؛ فقد تَكوّن الوعي بالهيمنة الذكورية لمعظم الناشطات النسويات السابقات (أغلبهن من البيض ) عندما عملن في ظروف مناهضة للطبقية والعنصرية مع رجال يحدثون العالم عن أهمية الحرية، بينما يمتهنون النساء العاملات معهن. وسواء أكنَّ نساء بيضًا يدافعن عن الاشتراكية، أم نساء سودًا يقاتلن من أجل الحقوق المدنية وتحرير السود، أم نساء ينتمين للسكان الأصليين ويعملن من أجل حقوق غير واضحة، فقد تجلى لهن جميعًا سعي الرجال ليكونوا قادة ولجعلهن مجرد تابعات لهم. ومع ذلك، فإن مشاركة المرأة في الصراعات الراديكالية من أجل تحقيق الحرية أيقظت روح التمرد والمقاومة لدى النساء التقدميات، وقادت خطواتهن صوب تحرير المرأة. ومع تقدم النسوية المعاصرة، أدركت النساء أن الذكور لم يكونوا وحدهم من يدعمون التفكير والسلوك المتحيز جنسانيًا في المجتمع، بمعنى أن الإناث يمكن أن يكن متحيزات جنسانيًّا أيضا، وبذلك لم تعد المشاعر المعادية للذكور تُشكل وعي الحركة؛ فتحول التركيز إلى جهد شامل لخلق العدالة بين الجنسين. وفي خضم ذلك، عجزت النساء عن توحيد صفوفهن لتعزيز الحراك النسوي بسبب التفكير الجنساني المتجذر داخلهن. فمثلاً، لم تتمكن النساء من تحقيق التآخي بينهن، بينما حالة الحرب التنافسية مع بعضهن البعض قائمة. ثم ظهرت المناقشات حول الطبقية والعرقية، والتي بدورها عرقلت الرؤى المثالية للأختية والقائمة على إدراك حقيقة أن جميع النساء تعرضن بصورة ما للظلم كنتيجة للهيمنة الذكورية. وقد نشأ وتطور نقاش الاختلافات الطبقية في وقت مبكر من الحركة النسائية المعاصرة، سابقًا بذلك مناقشة العرقية. فمثلا، نشرت (ديانا برس) أفكارًا ثورية حول الانقسامات الطبقية بين النساء منتصف السبعينيات في مجموعتها «الطبقية والنسوية». ولم تقلل هذه المناقشات من الإصرار النسوي على «قوة التآخي»، بل أكدت على أن الطريق الوحيد لتصبح النساء أخوات في النضال، هو مواجهة كل ما من شأنه الهيمنة على النساء واستغلالهن جنسيًّا وطبقيًّا وعرقيًّا، وتأسيس منصة سياسية للتعاطي مع هذه الاختلافات. وبالرغم من انخراط النساء السود أنفسهن كناشطات في الحركة النسوية المعاصرة منذ نشأتها، إلا أنهن لم يجذبن وسائل الإعلام الجماهيرية، ولم تسلط عليهن الأضواء كشخصيات مهمة في الحركة النسوية. وغالبًّا ما كانت الناشطات السود في الحركة النسوية نسويات ثوريات (مثل العديد من المثليات البيض). وكن على خلاف مع الإصلاحيات النسويات اللاتي أصررن على قَصر رؤية الحركة على المساواة بين المرأة والرجل ضمن أُطر النظام القائم. حتى قبل أن يصبح التمييز العرقي محور الأحاديث في الأوساط النسوية، كان من الواضح للنساء السود (وحلفائهن في النضال) أن المساواة لا يمكن أن تتحقق داخل النظام القائم ـ البطريركي الرأسمالي العنصري الأبيض. وقد انقسمت الحركة النسوية منذ نشأتها؛ فبينما أكدت المفكرات الإصلاحيات على المساواة بين الجنسين، رفضت المفكرات الثوريات فكرة الحصول على المزيد من الحقوق ضمن النظام القائم؛ فأصررن على تحويل هذا النظام كليًّا بوضع حد للنظام الأبوي وللتمييز الجنساني. ولكن الإعلام الأبوي الذي لم يكن مهتمًا بالرؤى الثورية أهمل هذا التوجه الفكري؛ فاستمرت رؤية «تحرير المرأة» التي تصور النساء على أنهن يرغبن فيما لدى الرجال، مستحوذة على خيال العامة. وقد كان من السهل تحقيق هذه الرؤية؛ اذ هيَّأت التغييرات الاقتصادية، والكساد، وفقدان الوظائف، وما إلى ذلك، البيئة المناسبة لقبول فكرة المساواة بين الجنسين في مجال العمل. ونظرًا لتجذر العنصرية، كان من المنطقي أن يكون الرجل الأبيض أكثر استعدادًا لقبول حقوق المرأة، إذا ما ترتب على منح تلك الحقوق استمرارية تفوق العرق الأبيض على غيره. ويجب ألا ننسى أن النساء البيضاوات بدأن مطالبتهن بالحرية بعد قيام حركة الحقوق المدنية عندما بدأ التمييز العنصري بالتلاشي، واقترب السود، وخاصة الرجل الأسود، من تحقيق المساواة مع الرِّجال البيض في مجال العمل. ولقد طغى التفكير النسوي الإصلاحي، الذي يركز في المقام الأول على المساواة مع الرجال في مجال العمل، على الأسس الراديكالية الأصلية للنسوية المعاصرة التي دعت إلى الإصلاح وإعادة هيكلة المجتمع ككل؛ ليقاوم بشكل جوهري التمييز الجنساني. ولقد توقفت معظم النساء، وخاصة النساء البيض ذوات الامتيازات، عن النظر في الرؤى الثورية النسوية، بمجرد أن اكتسبن قوة اقتصادية ضمن البنية الاجتماعية القائمة. ومن المفارقات أن الفكر النسوي الثوري حظي بقبول أكثر أكاديميا؛ فاحتضنته الأوساط الأكاديمية؛ فتقدم إنتاج النظرية النسوية الثورية في تلك الأوساط، ولكن في الغالب لم تكن هذه النظرية متاحة لعامة الناس؛ ولذا أصبح خطابها خطابًا متميزًا متاحًا لمن هم على مستوى عالٍ من التعليم، ومن يمتلكن الامتيازات المادية فقط؛ ولذلك لم تحظ الأعمال المنشورة، مثل كتاب «النظرية النسوية: من الهامش إلى المركز»، والتي تقدم رؤية تحررية للتحول النسوي، باهتمام التيار العام؛ فجماهير الناس لم يسمعوا بهذا الكتاب مطلقًا، ولم يطلعوا على رسالته. في حين كان من مصلحة النظام الرأسمالي الأبوي العنصري الأبيض أن يثبط رؤى التفكير النسوي التي لم تكن معادية للذكور أو معنية بمساواة المرأة بالرجل، كانت النسويات الإصلاحيات متحمسات أيضًا لإسكات هذه الرؤى؛ اذ أصبحت النسوية الإصلاحية وسيلتهن للارتفاع طبقيًّا. وبذلك يمكن أن يتحررن من الهيمنة الذكورية في نطاق العمل، ويكن أكثر قدرة على تحديد أساليب حياتهن. وبرغم استمرار التمييز ضد المرأة، إلا أنهن استطعن توسيع نطاق حريتهن ضمن النظام القائم. بالإضافة إلى استغلالهن للنساء الأخريات الأدنى منهن طبقيًّا للقيام بالأعمال الدنيئة التي كرهن القيام به. فبقبولهن وتواطؤهنَّ ضد الطبقة الكادحة والفقيرة من النساء، لم يتحالفن مع النظام الأبوي القائم وما صاحبه من التمييز الجنساني وحسب، بل منحن أنفسهن الحق في عيش حياة مزدوجة: واحدة يكن متساويات فيها مع الرجال في مكان العمل، وحياة أخرى مختلفة في المنزل. فإن اختارت إحداهن المثلية مثلا، فستحظى على الأقل بالمساواة مع الرجل في مكان العمل، بينما تُعمل القوة الطبقية لخلق أنماط حياة خاصة بها تمكنها من الاختيار بين التواصل مع الرجال من عدمه. أما النسوية المهتمة بأنماط الحياة الفردية، فقد أكدت على فكرة التعددية النسوية؛ فتم فجأة عزل السياسة عن الحركة النسوية. وكان الافتراض السائد هو أنه بغض النظر عن توجه المرأة السياسي، سواء أكانت محافظة، أم ليبرالية، فإن بإمكانها أن تدمج الفكر النسوي في نمط حياتها. وأدت طريقة التفكير هذه إلى جعل النسوية أكثر قبولا؛ لأنها بنيت أساسا على أن النساء يمكن أن يكن نسويات دون أي يتغيرن جذريًّا أو يعدن تشكيل ثقافتهن. دعونا نأخذ على سبيل المثال مسألة الإجهاض، فإذا كانت النسوية حركة تقوم على إنهاء الاضطهاد الجنساني، فإنَّ حرمان النساء من الحقوق الإنجابية يمثل أحد أشكال هذا الاضطهاد، وبذلك لا يمكن للمرء أن يكون مناهضا لاختيار المرأة، وأن يكون نسويًا في الوقت ذاته؛ فيمكن لأي امرأة أن ترفض خيار الإجهاض لنفسها، مع تأكيد دعمها لحق المرأة في الاختيار أيًّا يكن لتبقي على مكانها كمناصرة للنسوية. وهكذا فلا يمكنها أن تكون مناهضة للإجهاض، ومدافعة عن النسوية في الوقت ذاته. كما لا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه قوة نسوية، إذا كانت رؤيتها تعتمد على استغلال واضطهاد الآخرين. ولعل فقدان السياسة النسوية لزخمها يعود إلى عدم وجود تعريفات واضحة لها. ومع ذلك فلا يزال لدينا هذه التعاريف؛ فدعونا نتبنها ونشاركها مع الآخرين. فلنبدأ من جديد، ولنخبر العالم عن النسوية بوضع تعريفاتها على القمصان وملصقات السيارات والبطاقات البريدية، ولندخلها لموسيقى الهيب هوب، ولننشرها عن طريق الإعلانات التلفزيونية والإذاعية واللوحات الإعلانية، والمنشورات. وبذلك، يمكننا مشاركة رسالة بسيطة بمضمون قوي أن النسوية هي حركة لإنهاء الاضطهاد الجنساني. ومن هنا سيبدأ الحراك، وتولد الحركة من جديد. * ترجمة: أسماء الشهري.
مشاركة :