من مخطوطة أصليّة نثَرت على صفحاتها إملي نصرالله ما اختزنته ذاكرتها من عوالم الطفولة في قريتها الكفير (لبنان)، تشَكَّل كتاب ضمّت الكاتبة بين دفّتَيه وللمرة الأولى سيرتها الذاتيّة. فكانت هي، بقلمها الشفّاف، تروي سِيَر أفراد عائلتها وتشقّ خطوط هجراتهم هرباً من الفقر أو من السفربرلك العثماني ونشوب الحربين العالميّتين. الكفير، حيث نشأت أو «جورة السنديان» كما تسمّيها، هي المكان. المكان حيث تحصل الأحداث والحكايا؛ في ضيعة فلاحين تحكمها تقاليد تكشف الكاتبة عيوبها المسكوت عنها، لا سيّما تجاه المرأة. مكان إملي نصرالله عَنوَنت به دار قنبز الكتاب – السيرة ليتحوّل كتاب «المكان» عبر رؤية ناشره دار قنبز، إلى إنتاج فنيّ توثيقيّ تثقيفيّ وتربويّ متكامل: ثلاثيّة «المكان». ضمّت إلى كتاب – السيرة «المكان»، كتاب جيب أشبه بقاموس صغير، تزوّد من مكان إملي نصرالله بمعلومات ومصطلحات وافرة عن أزمنة تاريخية وطقوس اجتماعيّة سادت قرى لبنان في النصف الأول من القرن الماضي؛ إضافة إلى مَطويّة بحجم ملصق تمثّل خريطة الهجرة الداخليّة والخارجية ليحدّد كل قارئ مسار هجرته. وجميعها شكّل ثلاثيّة «المكان». كتاب «المكان» (267 صفحة و40 صورة) آخر حبّة في عقد مؤلفات إملي نصرالله. به تُكمل مساراً أدبياً زاخراً ستمر 65 سنة منذ صدور كتابها الأول «طيور أيلول» (1952). «الزمان الأوّل والمكان» تكتب إملي نصرالله، بقيا في ثنايا القلب، لم يفارقاها ولم تفارقهما. في «المكان» سيرة إملي نصرالله الذاتيّة أشبه بمرآة صافية تعكس أحوال مجتمع ريفي وأجواءه بأبعاده الإنسانية وتقاليده الاجتماعية وحكايا ناسه وسِيَر هجرات أفراد عائلتها من جدّها الياس، بائع الكشّة المتجوّل، إلى خالها أيوب، «العلاّمة، الراجح العقل»، إلى خالها توفيق، الهارب من أهوال السفربرلك، والذي كانت له أيادٍ بيض على تعليمها وإخوتها وإلى خالتها أدما التي زوجت بأرمل «أميركاني غنيّ» في سنّ مبكرة. في مكان إملي نصرالله وزمانها - وحتى زمننا هذا - تحصد الهجرة الأحباء وتترك المقيمين في انتظار بلا أفق وفي ضيق معيشي خانق وفي «المكان»، تنسج الكاتبة أولى تأمّلاتها في الطبيعة والموت والإيمان والإنسان؛ وتعلن شغفها بالعلم والمعرفة، فلا تكفّ عن طرح الأسئلة، ما جعل خالها أيوب، معلمها الأول يصفها بالبنت «الكتيرة الغلبة». «المكان» الذي أُعيد تبويب فصوله وعناوينه وترتيب تسلسل أحداثه، اختارت له دار قنبز تصميماً مبتكراً: على الغلاف رسمة فنيّة لجبل الشيخ رمز تلك المنطقة الجنوبية من لبنان، وفي الصفحات الداخلية خطوط ودوائر ونقط ترسم سيرة حياة أفراد عائلة الكاتبة والاتّجاهات التي سلكوها لبلوغ المهجر الأميركي. كما تضمّن الكتاب مجموعة صور للكاتبة ولأفراد أسرتها والمناسبات العائلية. «معاني المكان» معجم بحجم كتاب - جيب (277 صفحة): يضمّ مجموعة غنيّة ومميّزة من الصور الفوتوغرافية المصغّرة، ما يزيد على 240 صورة مصغّرة و67 رسمة فنيّة وشرح لـ240 مفردة ومصطلحاً إذ تزوّد إملي نصرالله قرّاءها بفيض من معلومات تتعلّق بتاريخ المنطقة وجغرافيتها في ثلاثينيّات القرن الماضي، وتفتح لهم خوابي زمن قرويّ، كان ولن يعود، ليطّلعوا على أجوائه وعاداته وحِكمه وخيراته. وقد خصّصت دار قنبز لكل قارئ داخل الكتاب، مطويّة بحجم ملصق، تحمل خريطتَين: «خريطة مكانكم» أو خريطة الهجرة الداخلية نرسم حركة انتقالنا بين المناطق داخل البلاد كالهجرة من الأرياف إلى المدن أو إبان الحروب على سبيل المثل. و «خريطة هجرتكم»، حيث نحدّد المهجر أو البلدان التي أقمنا فيها خارج لبنان. «المكان» سيرة ذاتيّة خطّها قلم إملي نصرالله بأمانة وسخاء وبأسلوب أدبيّ شفّاف ومرهف تمتلك هي مقاتيح لغته. مقتطفات: حكايات جدتي روجينا أعود إلى ذلك الزمان الأوّل وإلى المكان...». و «المكان» حيث بيت العائلة والجدّ الياس وروجينا الجدة والخال أيوب. حين أعود بالذاكرة إلى أيّام الطفولة، أُدرك كم كان جوّ عائلتنا مختلفاً عن سائر العائلات في الجورة بَدءاً بالجدَّين وقد طبعا حياتي بطابع لم يفارق برُغم مرور السنين... كانت جدّتي. تُجلسني في حُضنها وتمضي في سَرد الحكايات. ... وظلّت تروي وتحكي بأسلوب يميّزها، ولا تنتهي الحكاية... ومن البدء حتّى الختام و «عن شِكي، عن بِكي...»، وكنتُ حالما أسمع المقدِّمة أدنو منها و «أغلّ» في حضنها، وتحمِلني كلماتها إلى مطارح الحُلم والخيال، وإلى عوالم الدهشة والغرابة. ***** أيّوب هو خالي ومعلّمي وأوّل مَن فتح عينيّ على حياة مختلفة عن المألوف في جورة السنديان، خصوصاً أنّه أَخرجني من الحدود الضيّقة التي كانت تُرسَم للفتيات وتُلزِمهنّ التقيّد بالتقاليد المَوروثة من السلَف.... كان يختزن في شخصه تلك الثروة النادرة من أُبوّة الفكر والروح.... وكان مرجعي، إليه أعود حاملة أسئلتي الصعبة... ***** كان أشهر ما في البيت المَصطبة القائمة في الجناح الشرقيّ وتؤدّي أدواراً عديدة، هي في الصباح لشُرب القهوة مع أفراد العائلة، أو أقرب الجيران في الربيع والصيف. من فوقها ترتفع الأعيُن لتُواجه شيخ الجبال، شامخاً، مُتعالياً وحِياديّاً يُرسل صباح كلّ يوم الشمس السخيّة من فوق مَنكِبَيه؛ وحين يغضب أو يتعكّر مَزاجه يَحجبها خلف عباءةٍ تُلامس أطراف قدمَيه أو تحت عَمامته البيضاء الناصعة. هذا هو الجار القريب البعيد. يَسرح إليه النظر في أقلّ من ثانية، لكنّ بلوغه من بعض المستحيلات إذ لا توصِل إليه السبُل المُمهَّدة بل الشِّعاب المُصَعِّدة بين الصخور والتي لا يقوى على تسلّقها سوى البِغال والمُكارين المُحنّكين. ***** كانت تهوى مطاردة الغيوم. تتأمّلها ساعات دون مَلَل، ترسم معها الأشكال الغريبة أو تتعلّم منها الرقص والحركات الإيقاعيّة. تشعر بأنّ كِيانها الضئيل الذي يكاد لا يكون، له ظلّ فوق الأرض، وهو متّصل بالمَجرّات والأكوان البعيدة وبِعَوالم غامضة قائمة خلف آفاق القرية الصغيرة. ظلّت الطبيعة تُسحرها في كلّ الفصول وسيُشكّل انصرافها إلى التأمّل مساحة خاصّة في حياتها... حالما تخرج من الباب كانت ترتمي في أحضان الطبيعة. فالبيت المتواضع الصغير يطلّ على القرية من جهته الشرقيّة، أمّا من الجهة الغربيّة فحُدوده بساتين الزيتون وحقول القمح. ***** كنتُ أسمع روايات الأهل والجيران عن أولادهم المجنّدين في الـ «سَّفَربَرلِك»، كلّها متشابهة حتّى لَتَكاد أن تكون رواية واحدة. وظلّت تلك الروايات تضعني في موقع التخمين أكثر من التأكيد إلى أن عثرتُ على الكتاب المُخبّأ في صندوق الخال أيّوب، وفيه تأريخ لِهِجرة العائلة من والده إلياس في مطلع القرن العشرين حين دعاه إخوة زوجته روجينا إلى السفر. فَلبّى الدعوة شاكراً إذ ساءت الأحوال ولم تعُد الكروم تدُرّ من الغلّات ما يُسند العوَز. ***** نعم. هكذا وبتلك البساطة أُقفِل المعهد ورحل «الموسكوب» إلى بلادهم، وبَقيتُ في حيرتي إلى أن جاءتني دعوة من أخوالي المغتربين كي أسافر بأسرع وقت قبل أن تدور رَحى الحرب. كان أخواله يحاولون التعويض على أختهم ومَحوِ حَرقة بقِيت تلهُب صدرها جرّاء فشل زوجها ورجوعه من هِجرته مكسور الخاطر لِشِدّة ما عانى من شقاء ومرض. وبين عشيّةٍ وضُحاها كان أيّوب قد جمع أوراقه وأعدَّ العِدّة للسفر مع فَوج من الشباب المهاجرين إلى حيث يمكنهم تحقيق أحلامهم وتعزيز طموحاتهم. وكان السفر سهلاً على الشاب المتعلّم، الوسيم، والطامح إلى المزيد من العلم والنجاح. ***** ها أنا أعود إلى حكايات جدّتي روجينا وأتوقـــّف عـــند واحـــدة كانت تَسردها وتُعيد وكأنّها تغرس في الوعي جذوراً تريدها أن تنتقل من جيلٍ إلى جيل... «سافر توفيق بمَطلع شبـــابو... ترَكْلي الحِزن واللَوعا. خيّو كان سافر قبلو، وهُوّي رِجِع لِحقو... اشــتراه وَقتها جدّك من قيادة الجيش العربي بِميّة عُصمليّي... ويلّي وفّرو خــالك توفيق من شِغلو بِصِنع الأحذِيي دفعو تمَن الناولون، وسافر....» وتعود جدّتي لِتَصف الآلام التي عانَتها والعائلة عندما ساقوا الخال توفيق مع سِرب من الشـــباب البالغين سِنّ الجنديّة وأجبروهم على الالتحاق بالجيش العثمانيّ. كان هذا يُعرَف باسم سفَربَرْلِك، ربّما جاءت التسمية من أحوال الضّنك والقهر التي عاشها مَن كان لهم سوء الحظّ ذاك، الذين لم يُنقِذوا أنفسهم بالهِجرة خلف البحار حيث لا تطالهم يد التجنيد الإجباريّ. ***** كانت الزيارة والإعجاب، ثمّ تلَتها خطبة قصيرة الأمد قبل أن يتمّ الزفاف على عجل لأنّ العريس مضطرّ إلى العودة بسرعة كي يتابع رعاية أعماله في المهجر. دامت الفرحة أسبوعاً واحداً، ثم كان الانفجار: فقد غادر العريس الضيعة من دون أن يصطحِب عروسه وترك الساحة مُشرّعة للتّكهّنات، كما أنّ البرهان المألوف على أنّ الزواج قد تمّ بقيَ غائباً، فلَم تخرج شقيقة العريس أو إحدى قريباته لِتُزغرد وتلوّح بالقميص المُلوّث بِدمّ البَكارة أمام الشهود مثلما درجت العادة. أمّا العروس فقد عادت إلى بيت أهلها كسيرة الخاطر وتوارَت عن الأنظار. بقيت المسألة ومادّة المُتكهّنات لُغزاً يُحيّر الجماعة إلى أن رجع العريس من غِيابه حاملاً موافقة مطران الرعيّة على الطلاق... وكان يُسمح به في ذلك المجتمع في حالة واحدة: إذا لم تكن العروس عذراء. وبما أنّ البرهان بقي غائباً، فقد اتّخذه المطران عُذراً لِإصدار حكمه بالطلاق». ***** كيف بدّي أوِصفلك أدما؟... إنتِ بتعرفيها من الصور، صورها مع مخّول والعيلي. هو رِجع حتى يزور الأهل وكمان يدبّرلو عروس تِحلّ محلّ مَرتو يلّي خسرها بِعزّ صباها. كان أرمل مع تلات ولاد، وطلب إيد أدما. وافق جدّك وما عاد حدَن منّا يِستَرجي يْعارضو. هيك كانت الجيزات تِمّ بالماضي يا ستّي. وأنا بس جوّزوني جدّك ما كِنت بَعرفو ولا كِنت حاكيتو. الأهل قالوا نعم، وأنا رضخت لمشيئتُن. هَيك كانت الموضة يومها، وخالتك ما اعترَضِت لأنّو سَطوة جدّك كانت تِحكِمنا كِلّنا. خواطر - الأشياء والأماكن تنزلق من الذاكرة. الذاكرة تتفتّح كلِحّاء الشجر ثمّ تتساقط مخلِّفة اللبّ والجوهر، والذي هو الإنسان.» - تعود الذاكرة تتمدّد فوق شبكة الأيّام، تسجّل المشاهد والوجوه وأصداء الكلام. لماذا تحتفظ بهذا المشهد دون سواه؟ ولماذا ذلك الوجه والصوت؟... أيّ سرّ هو سرّها؟ وما هي المقاييس التي تعتمدها في الغربلة والنسيان؟ النسيان؟... نعم، نكتب في معظم الأوقات لا لنتذكّر بل لنَنسى، ولكي نُخرج ذلك الضغط الحارّ من قفص الصدر، نُطلقه، نُحرّره ونتحرّر منه. عن دورة الأيّام: - مثلما تتعاقب الفصول والأيّام، هكذا تتوالى الأفراح والأحزان، وأحياناً تكون متواصلة تنبُت من أرضٍ واحدةٍ وتتشابك تحت جذور النَّبتتَين المتناقِضتَين: الحزن والفرح.»
مشاركة :