تمر الدول من وقت إلى آخر بما يسمى بـ«الدورة الاقتصادية»، وتستمر كل دورة فترات متشابهة يمكن تقدير معدلها من 20 إلى 25 سنة، وذلك بسبب التحولات التي تطرأ على المجتمعات والدول ومنابع المال واستثماره. كان العقار في دول الخليج– على سبيل المثال– هو المحفز الأول للقطاع الخاص في العقود الثلاثة الماضية، تليه قطاعات متنوعة من الخدمات، منها التجزئة وغيرها. اليوم؛ وبسبب المزيد من الأنظمة والتغير الواضح في نمط المجتمع وعدد أفراد الأسرة والدواعي الأمنية والرسوم على الأراضي البيضاء، يتحول قطاع العقار إلى عبء على من ما زالوا يملكون العقارات، سواء أكانت أراضي لم يشيد عليها شيء، أم حتى عقارات عاملة مؤجرة، قد نستثني من ذلك إمارة دبي التي تتبع سياسة التمليك للأجانب منذ زمن بعيد، على رغم وجود فترات تصحيح للأسعار تأتي وتذهب. الكويت والسعودية، ومنذ السبعينات الماضية على سبيل المثال، وضعتا القيود التي تمنع الأجانب من التملك، وتسبب ذلك بالتالي في وجود خوف لدى هؤلاء من الاستثمار: كيف أستثمر وأنا لا أستطيع حتى شراء منزل؟ اليوم تم رفع هذا الحظر بالطبع، وتم تعديل الكثير من الأنظمة تمشياً مع الرغبة في خلق بيئة الاستثمار، وبالتالي تنوع مصادر الدخل. بجانب قطاع العقار والركود الذي يعاني منه اليوم؛ نشاهد عدداً من المنشآت الصغيرة والمتوسطة لأنشطة عدة تغلق أبوابها وتغادر، وأسباب ذلك ربما الخوف من كشف التستر أو ببساطة ارتفاع الوعي لدى المستهلك وتقلص إنفاقه على الكماليات، بعد رفع أسعار الطاقة، كما نشاهد هبوطاً ملحوظاً في مبيعات السيارات الجديدة أيضاً، على رغم المغريات غير المسبوقة التي تقدمها الوكالات. في جلسة تخللها نقاش مستفيض مع خبراء سعوديين قبل يومين، تنبأ أحدهم بأن ما يحدث اليوم، سواءً في المملكة أم في بقية دول الخليج، ليس أكثر من مجرد تصحيح بدأ قبل عام وسينتهي بعد عام ونصف العام ثم يعاود النمو من جديد، ولكن بأدوات مختلفة، فعلى سبيل المثال سنجد ربما 100 شركة مقاولات متنوعة المستويات بدلاً من 1000 شركة ثلثاها يفشل في تشييد ما يلتزم به في الوقت المحدد، وسنجد ربع العدد الحالي من ورش صيانة العربات، ولكن بجودة والتزام وخدمات راقية، وبدلاً من وجود 5000 سباك في مدينة كالرياض لا يوجد سعودي واحد بينهم، سنصل إلى مفهوم الشركات المتكاملة للصيانة المنزلية، ولن تعمل إلا بعقود وضمانات لمصلحة طالب الخدمة وستوظف سعوديين، لاحظوا الفوضى في مبيعات الأجهزة الذكية اليوم كالهواتف، وكم عدد الحوانيت التي تبيعها من دون صيانة معتبرة، سيختفي هؤلاء ولن يبقى إلا من لديه الاستعداد لتقديم خدمة البيع والصيانة ما بعد البيع وبشهادة من الشركات المصنعة. الحديث نفسه يمكن أن نطبقه على تجارة الأغذية، إذ إن الممارسة المعتادة هي السماح لأي صاحب بقالة بأن يبيع المواد الغذائية وينافس المتاجر الكبيرة الأكثر حرصاً على التعقيم والنظافة والتبريد. لو فرضت البلديات شروطاً صارمة على أصحاب هذه البقالات خصوصاً في النقل ونظافة المكان وأجهزة التبريد؛ فلن يتمكنوا من منافسة الكبار، وبالتالي سينمو هذا القطاع بنسب عالية إذا علمنا أن حصة السوبرماركت الآن لا تزال دون 35 في المئة والباقي للبقالات وتجار الجملة، في ما يعرف بأسواق الجملة التابعة لأمانات المدن والتي– مع الأسف– تفتقر للكثير من الشروط الدنيا لتجارة المواد الغذائية. نعم، هي فترة عصيبة لمن لم يتبع قواعد التجارة والبزنس ولا يملك المعايير الدنيا لضمان كسب المستهلك واستمرار النشاط. في رأيي الشخصي أن التسيب والفوضى التي مرت بنا في سنوات الطفرات المالية من حيث انتشار المؤسسات الصغيرة جداً واعتياد المستهلك وقبوله الجودة المتدنية التي يقدمها أي عامل أجنبي بأرخص الأسعار، رأيي أن هذا المشهد كان مضللاً. قد يوحي ظاهراً بوجود حركة ونشاط تجاري وتنمية، لكنه لا يقدم شيئاً للاقتصاد السعودي ولا يسهم في خلق وظائف لأبناء وبنات الوطن. فائدته الوحيدة المباشرة تعود على مالك المبنى الذي يؤجر جزءاً منه على هؤلاء. ذكر أحد الإخوة أيضاً أن النمو المنتظر بعد هذا الركود سيكون أقوى في قواعده وصلابته وتحمله للتقلبات وسيقوده أبناء الوطن عوضاً عن الأجانب في غالبه الأعم. نعم، ستبقى الحاجة لملايين الأجانب، لكن أعدادهم ستتقلص إلى النصف مقارنة في مستواه قبل عام. أما بالنسبة لتوافر الخدمات بأنواعها كافة، وإغلاق عدد كبير منها فالحكم على حجم الضرر للمستهلك يمكن تعريفه بتساؤلات محددة: هل نعاني اليوم من توافر صيانة منزلية؟ هل افتقدنا ورش صيانة العربات؟ هل يوجد نقص في المواد الاستهلاكية؟ هل تقلص عدد العيادات الطبية أو شح وجود الأدوية أو انخفض عدد سيارات الأجرة أو نعاني من عدم تنظيف الشوارع؟ الجواب على كل هذه الأسئلة يحدد وجود المشكلة إن وجدت. الحقيقة أننا لا نعاني من أي مما تساءلت حوله، وبالتالي من أغلق نشاطه لأي سبب إنما هو دليل على وجود نوع من الورم أو الانتفاخ الذي لا بد من إزالته. من هنا لا يجب أن يصيبنا القلق من تكرار مشاهدة وقراءة الملصقات على بعض المحال التجارية برغبة تقبيلها وخروج المالك من النشاط، أيضاً لا يجب أن نتوتر من وجود محال تجارية شاغرة مغبرة لا يوجد من يستأجرها، كثرة المحال أصلاً خطأ والسماح بانتشارها بهذا العدد الهائل يعتبر تقصيراً في قدرات أمانات المدن على تحديد النسب الملائمة للمناطق التجارية في كل حي، حتى قيل أن عدد الفتحات التجارية في الرياض يساوي عدد السكان. أتصور في ما يخص السعودية تحديداً اقتحام الشباب السعودي، ذكوراً وإناثاً، وفي القريب العاجل بيئة العمل، سنشاهد مؤسسات جديدة تقدم خدمات أكثر تقدماً واستفادة في استخدام التكنولوجيا وتوظيفها لتحويل سوق العمل السعودي ونقله إلى مركز يولد المهن الجديدة بمستويات لائقة وجودة عالية وقادرة على الاستمرار والصمود. في مقالة مقبلة قد نتحدث عن عدد من الأمثلة والفرص الحقيقية المتاحة في هذا الإطار. * كاتب سعودي
مشاركة :