يشـــدّد كثر من البـــاحثين في موضوع الحداثة على أهميّة السياق التاريخي والحضاري، الأمر الذي تغدو في إطاره كلّ حداثة نتاجاً لسياقاتها التاريخيّة في مختلف ميادين الحياة، بحكم انشداد البشر شبه الفطري إلى أصول النشأة الأولى تاريخياً وحضارياً، بحــيث يبقى الفكر الحداثي مستمداً بعض مكوناته من تراثه، من دون أن يعني ذلك بالطبع أن التراث متحف لا علاقة له بالحاضر، والمثل الشعبي يقول: من لا تاريخ له لا حاضر ولا مستقبل له. وهو - وفق بلقزيز - حقيقة وجودية في السياسة والثقافة والدين، يمارس حضوره على الأفكار والعلاقات والمؤسسات وحتى التصوّرات المخيالية. وفي هذا الإطار، يمكن العودة إلى كتاب د. أبو عمران الشيخ، الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر وأستاذ الفلسفة الإسلامية في الجامعة الجزائرية والمعنون بـ «الحرية في الفكر الإسلامي- الحل المعتزلي»، والذي ترجمته عن الفرنسية المترجمة رندة بعث، وقدّم له روجيه أرنالديز( Roge Arnaldez) الأستاذ في جامعة باريس 4. المعروف أن الحرية هي من أكثر المشكلات إرباكاً للفكر الإنساني، فقد بذل الفلاسفة واللاهوتيون جهوداً كبيرة وجبّارة في محاولة حلّها، وفي هذا يقول البروفسور روجيه في تقديمه: (فلئن كان الفكر يصطدم أثناء محاولته حلّ مشكلة الحريّة بإرباكات صعبة، فإن الإيمان العقيدي يضيف إليها أسئلته الخاصة، وهو أمر لا يسهّل حلّ الإشكاليّة). في حين يؤكّد د. علي عبدالواحد وافي في كتابه «حقوق الإنسان في الإسلام»، أنّ الإسلام اتّخذ الحرّية دعامة لجميع ما سنّه للناس من عقائد ونظم وتشريع، وحرص على تطبيقها في مختلف شؤون الحياة، ولم يغفل أيّاً من نواحيها الأربع، وهي: الحريّة في الميادين: السياسية والفكرية والدينيّة والمدنيّة. ومن هذا المنطلق، جاءت دراسة الشيخ أبو عمران عن الحل المعتزلي، بحيث يضع في مقدّمة دراسته اعتبارات تمهيديّة يحدّد فيها أنّ اتجاه المذاهب يتّضح من خلال دراسة الشروط التاريخية التي ولدت فيها وتطوّرت، وهو ما يسمح بفهم أفضل لنشوء الأفكار والتأثيرات التي مرّت بها ومضامينها، مبيّناً أنّ مسألة الحريّة نوقشت في الثقافة الأوروبية منذ القرن التاسع عشر، لكنّ الباحثين حصروا اهتمامهم بوضعها في الداخل الأوروبي مع انتباه نسبي إلى حضارات الهند والصين وبلاد فارس والشرق الأدنى، ولهذا فقد بقيت الفلسفة العربية الإسلاميّة بخاصة مجهولة لديهم في شكل عام واصمينها بأنها تجمّدت في (قدرية) عقيمة، مع استثناء أعمال بعض المؤرخين أمثال غولدتسيهر G0ldziher الذي انتهى نشاطه مطلع القرن العشرين، إضافة إلى أعمال الفيلسوف الفرنسي لويس غارديه Louis Gardet مع باحثين آخرين ومستشرقين. وقد يبدو ضرورياً أن نبيّن مع الشيخ بو عمران أيضاً، أنّ التصوّر الجبري (القدري) غريب على العقيدة الإسلامية لأنّ الإنسان ليس لعبة للقدر، فقد فهم موضوع القدر فهماً خاطئاً، وقليلون هم من تعمّقوا في تحليل هذا المفهوم وأوضحوا عدم صوابيته، وقد يبدو أنّ تحليل المعتزلة لمفهوم الحريّة ورفضهم رفضاً قاطعاً كلّ أشكال القدريّة، شكّلا أهم أسباب إعادة دراسته لمسألة الحريّة في الفكر الإسلامي وجعلها موضوعاً لرسالة الدكتوراه، مستفيداً من مخطوطات معتزليّة كانت مجهولة، مثل العمل اللافت الذي قام به الشيخ عبدالجبار شيخ المدرسة المعتزلية في نهاية القرن الرابع ومطلع الخامس للهجرة (العاشر ومطلع الحادي عشر للميلاد)، والتي تمثّل موسوعة أساسية تسمح للباحثين باستكشاف مضامين المذهب وأسسه. لقد أراد المعتزلة وفق أبو عمران، «إضافة لاهتمامهم بحرية الإنسان الماورائية، البرهان أيضاً على أنّ الإنسان يتمتع بحرية خلاّقة ومحسوسة ليتمكن من الفعل على نحو مستقلّ ومسؤول بالكامل». الأمر الذي يعني أنّ كلّ إنسان مسؤول ومكلّف بأفعاله، فكل من يرتكب معصيّة يستحق العقاب. وعلية من وجهة أخرى أيضاً، فإن السلطة السياسية مكلّفة بأفعالها مثلها مثل الإنسان! والاحتماء بالقدر إجراء مضلّلٌ. كما يحاول الكثير الاحتماء به والاستناد إليه في تبريره ارتكابه الخطأ والمعصية. ويرى الشيخ بو عمران أنّ الحلّ المعتزلي أثّر تأثيراً عميقا في كل تيارات الثقافة العربية والإسلامية سواء تعلّق الأمر بالمجادلة العقيدية (فلسفة الكلام) أم بالفلسفة ذات الاستلهام الهيليني أم بالتصوّف الصراطي أو غير الصراطي، واتّخذت كل مدرسة أو تيار موقفاً من المذهب المعتزلي ومن المنهج المطبق طوال قرون، وقد شكّلت هذه المواقف والنقاشات ثروة فكريّة كبيرة في مجال حريّة الحوار والتعمّق في التحليل والدراسة في الفكر الإسلامي، ما زال صداها حيّاً حتى الآن! وعلى رغم الضعف والغياب اللذين أصابا الاعتزال بانتصار الأشعرية، فقد تجلّى الاهتمام به مجدّداً مطلع القرن التاسع عشر، وحاول استلهام بعض أصوله الفكرية عددٌ من المجدّدين أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال، لا سيما في صياغة مذهب الحريّة الإنسانيّة واستثارة حركة تحويلٍ للمجتمع الإسلامي بهدف إدماجه في تيار الحضارة العالمية المعاصرة وإبعاد تهمة التخلّف والتعصّب منه. لكننا نستطيع القول مع الشيخ أبو عمران أيضاً، إنه من نافلة الأمور التوهّم والتخيّل في أنّ ما ذهب إليه بعض المفكرين المجدّدين تجاه الفكر المعتزلي في الحريّة الإنسانية يستطيع حلّ جميع المصاعب المعروفة، والتي تعترض المجتمع الإسلامي في حراكه وتطــلّعه تجاه بناء حياة معاصرة جديدة، إنما نستطيع القول: إنّه يمثّل حثّاً إيجابياً للأبحاث الأكثر تعمّقاً، نحو دروبٍ أكثر انفتاحاً تتّصل بمتطلبات الزمان الذي نعيشه في تواصله المفتوح وابتكاراته الهائلة ومنظماته الإنسانية ذات البعد العالمي. وهو ما يحاول كثر من النخبويين العمل له ضمن الحراك الصعب الذي تمرّ به المجتمعات الإسلامية للوصول إلى حالة أكثر انفتاحاً فكرياً، بعيداً من التعصّب الذي أصاب الكثير في حالة عمى لا يرى فيها إلاّ نفسه.
مشاركة :