بنظرة بسيطة ودون تكلف عندما نقارن ما نشأنا عليه بما نشأ عليه أبناؤنا نرى فروقات هائلة في الفعل وردود الفعل، في الأساليب والطرق وفي النتائج المترتبة عليها. نشأنا ومن واقع تجربة شخصية على يد رجال وسيدات أشداء شكلتهم الحياة تشكيلا قاسيا نتيجة المجاهدة والركض في فلوات البحث عن الرزق والسعي وراء الفضائل والخوف والهرب من العيب. لم ترحمهم ظروف العيش الصعب ولم يرحمهم إطار المجتمع المحيط الذي يؤاخذ على شبهة الزلة قبل أن تقع، كانت سطوة المجتمع تطغى على حياة الأسر وتأخذ من دورها، فالجميع ولي أمر، والجميع يربي يأمر وينهى ويوبخ ويعاقب. كان الجميع يتشارك في ممارسة القسوة والرقابة، والجميع يقع تحت قسوتها أو رحمتها سواء بسواء. عندما أتحدث عن أسرتي فأنا أتحدث عن كل بيت، لأن الحياة كانت متشابهة لا تختلف إلا اختلافات بسيطة وثانوية، لكن الخطوط العريضة واحدة. الأبناء والبنات كانوا يخرجون باكرا لواقع الحياة الصعب ويتركون الدلال والحنان من وقت مبكر، فوظائف المنزل والأسرة وما يحيط بها موزعة وفق عرف غير مكتوب على الصغار والكبار سواء بسواء. الأب يتولى الزراعة وحراثة الأرض وسقيها وشد الحمول على البهائم والأم تتولى الطبخ وسقيا الماء وجلب الحطب والعلف للدواب. رعي الأغنام والأبقار عادة يتوزعه الأبناء والبنات وقد تتشارك الأسرة كاملة في بعض الأعمال الموسمية التي يجب إنجازها في وقت قياسي مثل موسم الحصاد (الصرام والدويس وتخزين الحبوب والتبن). الجري بلا توقف لملاحقة متطلبات لقمة العيش تجعل الترفية وإبداء الليونة للأبناء وتدليلهم تذهب إلى هامش صغير بعيد من هوامش الحياة. هذه حياة سكان القرى يقابلها حياة سكان البوادي وحياة سكان قرى السواحل ومدنها، من صيادي السمك والمترزقين على ما يخرجه البحر من خيرات، قد لا تقل حياة هؤلاء أو أولئك في قسوتها عما كان يعانيه أهل القرى. بدأت هذه الصورة الداكنة نوعا ما تتغير مع مضي الزمن، فمع المد الحضاري الطاغي تحولت حياة الناس من الحرف والمهن إلى الوظائف العامة والخاصة، وتغير حال الأطفال من السباق في إتقان مهارة حياتية أو مهنة للأب أو الأم وراثة عنهما إلى السباق في التفوق والتحصيل الدراسي. أخذت المدارس والمقار الحكومية تجتذب أفراد المجتمع صغارا وكبارا نحو أهدافها المرسومة لها، بدأت مظاهر الحياة القديمة تنسحب في صمت واستحياء أمام التقدم الحضاري وما واكبه من تغيرات اجتماعية وتربوية. أشجار أثمرت لم تعد تجد من يقطفها، وزروع أينعت لم يحصدها أصحابها، وإن فعلوا فربما لا يعاودون الكرة من العام القادم بالزراعة. الدواب باتت عبئا على ملاكها تم بيع ما أمكن بيعه، وربما سرحت بعض المواشي وأطلق لها العنان لتفعل بنفسها ما تشاء. تغيرت التركيبة الاجتماعية، وتغيرت حدية العيوب وحدة السيطرة الاجتماعية على أفراد المجتمع، ودخلت للمنازل وسائل ترفيه أحاطت الجيل الجديد بطبقة من الدلال والترف لم يحظ بها من سبقهم، بل لم يحلموا بمثلها. تغيرت المعادلة داخل المنازل، فالأبناء والبنات تحولوا من رافد للمعيشة ومعين على بعض وظائف المنزل إلى فئة مستهلكة متطلبة لكثير من الموارد لسنوات طويلة قد تنتهي بتوظيفهم واستغنائهم عن دعم الأسرة. بات جيل الأمس الذي رضع مشاق الحياة مع حليب أمهاتهم، مطالبين بالرضوخ لسيل جرار من نصائح المرشدين الاجتماعيين لتحديث طريقة تربيتهم للجيل القادم بعيدا عن ثقافة الأمس التي تمجد الصلابة وتحميل الأطفال من الأعباء ما يقصم الظهر. بتنا بين صرامة جيل سابق نتحسر عليها مغفلين ظروف تلك القسوة وتداعياتها السلبية وبين تساهل تربية حديثة تدافع باستماتة عن التوازن النفسي للطفل وأهمية ألا يكسر له خاطر ولا يمس له جانب. هنالك مقولة يقال إنها لأفلاطون مفادها «لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم».
مشاركة :