تكاملا مع مقال معالي السفير والكاتب الصحفي والإعلامي بهجت العبيدي، فمن أراد فهم مقالي فعليه أولا : أن يقرأ مقال معاليه وهو منشور بصفحتنا لأن المشروع كل متكامل، وكذلك من أراد مطالعة مقالي الأول فهو منشور بصفحتنا أيضا. الصراع بين الهوية أو(الانتماء) والعولمة :كثر الحديث مؤخرا عن تطوير المنهج الديني أو الفكر الديني، والحق يقال أن الفكر الإسلامي مر خلال رحلته الزمنية بمجموعة من المركزيات التي دفعت به إلى دروب مختلفة تخدم سلطات سياسية بعينها دون غيرها، وعلى مر السنين تحول الأمر إلى حلقات ودوائر حول العقل المفكر المجتهد لا يستطيع تخطي حدودها أو الفكاك من مداراتها، لأنه يعرض من تسول له نفسه بذلك للهلكة وسخط المجتمع فيذهب دون رجعة، هذا التطور الدائري آل إلى شريحتين من البشر في عصرنا الحديث تمثلان ثقافتين متنافرتين. نحن أمام شريحتين من شرائح الثقافة إحداهما :تمثل العالم الإسلامي، والتي لم تستطع أن تقدم تطورا وتدرجا للقيم الدينية وفق سلوكات المجتمع المعاصر ولم تستطع استيعاب العصر الحديث، لأن القائمين عليها عاشوا في الماضي، ولم ينتجوا مايواكب الحاضر أو يتكيف مع الحضارة الحديثة.والشريحة الثانية : تتمثل في تلك القلة التي حاولت التغيير مرارا دون جدوى، لأن أصحابها سلكوا منهجا ذاتيا تصادميا وربما لم يرق ليغير سلوكات المجتمع.في مقابل ذلك ظهر الفكر الغربي الذي يسعى لتصدير فكره وينشط لتصدير العولمة.ومن هنا نشأت فكرة الهوية كصراع ضد فكرة العولمة ومع الوقت سيحدث تشعب لهويات كثيرة معربة عن ذاتها في مقابل زحف العولمة، وهو ما سيسبب صراعات وعداءات داخلية وخارجية.لابد للمؤسسات الغربية التي تنشط لعولمة الآخر العربي كمؤسسة التجارة العالمية وغيرها من المؤسسات التي تعمل خارج نطاق حدودها، وتحاول تغيير العالم وسيره في اتجاه واحد حتى وصل الأمر للتعليم.لابد لهؤلاء أن يفهموا جيدا أن أمر الحضارة الغربية وما وصلت إليه مرتبط بخلفيات غربية تختلف في طبيعتها عن حضارة الشرق، والتي ترتكز في الأصل على مركزية دينية إسلامية وهى صلبة قوية، ولسوف تتصادم مع أى تغيير غربي.إذا نظرنا إلى الواقع والنسيج الثقافي العربي اليوم نجده ممزقا بما يسمح لغيره من اختراقه، ويرجع ذلك إلى عوامل عدة أهمها حجب العقل المجتهد، وذلك تم عبر فترات طويلة بفعل قوى الحكم التي عاصرها المجتمع الإسلامي، فتجد البعض يستدعي الماضي والبعض يصطدم بالحاضر، حتى هؤلاء الذين ينادون بالتغيير ويدعون إلى التطوير لايعرفون من أين يبدأون؟ ولا كيف؟ لأن تحرر العقول التي ترعرعت على أفكار بعينها يصعب عليها الفكاك من حبائلها.نشأت آلاف الصور المنغلقة على نفسها داخل المجتمع العربي والمتمثلة في الطوائف الدينية، وتصارعت هذه الطوائف فيما بينها كل يحاول أن يثبت أنه الأفضل مما مزق كيان النسيج الثقافي، والتلاحم الاجتماعي وأهدر الجهود، وأضاع الأعمار، وحال دون محاكاة النموذج الغربي أو مقاربته.وكما ذكرت فإن البعض يدعون إلى تطوير الفكر الديني لكن أحدا منهم لم يقدم نموذجا واضحا، وأغلبهم في دعواهم يصطدمون بثوابت عقائدية لدى كل مسلم، وما هى إلا كلمات تضيع في مهب الريح!!والبعض يدعون لمحاكاة الغرب، لأنه النموذج الذي احترم حقوق الإنسان وحقق التقدم، ولكنهم تجاهلوا الخلفيات التطويرية التي مرت بالمجتمع الغربي حتى صار إلى ماهو عليه، وتعاموا عن طبيعة الشرق الخاصة والتي تختلف كليا عن الغرب.الأمر يحتاج إلى تكوين خصوصية تتشكل من المرجعيتين ولا تكون أيا منهما، وتتمثل في أفراد يمتلكون القدرة على الإبداع والتغيير.إن طبيعة الصلة مع الماضي كونت لدى مجتمعاتنا دوائر مغلقة من الثقافات، ومتعارضة فيما بينها بل ومتعارضة في أغلب الأحيان مع القوى الحاكمة، وهو ما يسبب الصراعات والجرائم أحيانا، حتى بات لدينا تشكيل متنوع من الإرادات والانتماءات والثقافات والتطلعات، ومن هنا تصبح العولمة الداعية إلى ضغط المجتمعات في إطار واحد، تصبح مصارع جديد في الميدان يقاتل ضد آلاف الخصوصيات ومن يحارب في أكثر من جهة يضعف ثم يفشل.فكرة العولمة تجاوزت فكرة الإستعمار في القديم حيث أشاعت قيما وفرضتها على العالم، وبدأت تصوغ بإعلامها ووسائل اتصالها وعي الشعوب صوغا يرمي إلى تقبل القيم الغربية، وبالفعل بدأت تطبق تشريعات ملزمة في مجالات الاقتصاد والسياسة والتعليم، وهذا يعد خطرا ينذر بتهديد القيم والثقافات الأصلية للشعوب، وسينتج عن ذلك حركات مضادة تشكل فكرا مضادا، وهو ما قد يترتب عليه كثرة الصراعات.وعليه فإنني هنا أدعو إلى تنقية القديم من الشوائب، وتجليته بإزاحة ما به من عوالق السياسة والصراعات، لنأخذ بأفضل ما فيه من قيم وعلوم، ونطرح ما أفسد فكرنا ودفعنا للتناحر وأهدر جهودنا وحصر فكرنا.ننقي التراث ونحمله بفكر جديد، وعقلية جديدة تدرك ما وصل إليه الغرب من تطور وعلوم وما حققه على كافة المستويات، لتبدع مزيجا ثقافيا ونموذجا فكريا ثقافيا قادرا على كسر الخضوع العربي، وتحويله إلى قوة عربية.
مشاركة :