د.مدحت عبد الجواد يكتب: الحرية الحمراء

  • 10/5/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تعجبت لتلبيس إبليس على عقول غلفتها أكفان من حرير جهنم، فقد تصادف أن مر بي هذا الأسبوع ثلاثة مواقف صادمة كان أولها : لرجل ذو منصب أراد الشهرة، والحظوة لدى صاحب عمله فأمر من تحت قيادته بأوامر تثقل كاهلهم، واستباح جهدهم وأوقاتهم، دون قدرة منهم على الاعتراض عليه، خوفًا على أعمالهم فلا حيلة لهم، وذلك ليثبت لسيده أنه يعمل ليلًا نهارًا لخدمة المؤسسة، دون أن يستشير العاملين الذين أحضرهم في غير أوقات العمل، واستباح أوقاتهم برغبتهم في عمله أو رفضهم له .وثانيهما : لسيدة تجادل في الحجاب تحت دعوى الحرية الشخصية، وأن العبادة علاقة شخصية بينها وبين الله لا يحق لأحد التدخل فيها حتى بالنصح ، وثالثهما : لشخص يتدخل في أمور الناس بالحديث والتجريح بما لايرضيهم، ويستبيح أعراضهم، ويؤذي مشاعرهم، ويكيل عليهم من الشائعات دون تحقق أو تثبت؛ ليفضحهم ويرضي أشخاصًا ما طلبوا منه القيام بهذا الدور، لكنه تطوع مأزورًا غير مأجورًا طمعًا في الدنيا وباع ما عند الله بدنياه .ولقد تأملت هذه المواقف وغيرها فوجدتها تدار بزعم الحرية، وتحت ستار وشعار الحرية :(وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمــراءِ بابٌ بكُلِّ يَدٍ مُضَــــرَّجَةٍ يُدَقُّ ) ، تكتمل إنسانية الإنسان بمقدار ما تكتمل حريته، وإن ما أفزعني وأرق خاطري ما يُرتكب تحت اسم الحرية من مغالطات، وجرائم وتلبيس شيطاني، وما يُستباح من حرمات للدين والمجتمع تحت زعم مفهوم الحرية، وما تنوعت عنه الفكرة من أنواع باتت تهدد وجودنا، وتعترض مسيرتنا، وتهدم ثقافتنا الإسلامية وقيمنا المجتمعية، ويجب تجلية الأمر عن مفهوم الحرية لمسح الغشاوة عن أعين العميان والمتعامين، والتصدي لخداع الأبالسة والشياطين، فإذا تتبعنا مفهوم الحرية السياسية والاستقلالية الفردية الحديثة المتسرب إلينا من المجتمع الغربي نجده يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالفكر الليبرالي عند الفيلسوف البريطاني ( جون ستيوات ميل )، ولايعني هذا أن هذا المفهوم لم يكن موجودًا قبله بل هو مفهوم قديم حديث، ولكنه استطاع أن يطوره لحريات عديدة ، فعندما ظهرت الحاجة إلى تقييد سلطة الحاكم على المجتمع راجت فكرة الديمقراطية، حتى لاحظ ( دي توكفيل ) مشكلة طغيان الأغلبية على العامة والأقلية، وتصدرها للحكم، والأغلبية عنده تتمثل في الأفراد النشيطين والإيجابيين وليست الأغلبية العددية ، وتصدى ( جون ستيوارت ميل) لحل المشكلة حيث وضع قاعدة تحدد العلاقة بين المجتمع والأفراد وكانت نواة الفكر الليبرالي، فنظر إلى أفعال الفرد فوجدها نوعين : نوع يتعدى أثره الفرد ليصل إلى المجتمع، وهذا يعطي فيه الحق للمجتمع في وضع القوانين التي تنظم العلاقة بينه وبين المجتمع . ونوع لا يتعدى أثره الفرد وهذا ليس للمجتمع فيه سلطة على الفرد حيث لا يسبب علاقة بينه وبين المجتمع .وتعالوا بنا نعود إلى الشريعة الإسلامية لنجد ذلك متمثلًا بوضوح في القرآن والسنة النبوية ولكثرة الشواهد عليه فإننا نكتفي بدليل أو اثنين ، فنجد القرآن يكفل الحريات الدينية وغيرها (لا إكراه في الدين )، ونجد حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينظم هذه العلاقة في حديث السفينة (مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا ) ( رواه البخاري عن النعمان بن بشير ) ، وفي حديث ( عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) رواه البخاري ومسلم.مما سبق يتضح لنا أهمية فهم مفهوم الحرية، وأن هناك ثوابت لا يجب تجاوزها تحت زعم الحرية، وقد بينا أهميتها في المجتمع المدني والديني ، فمن تُجادل في قضية الحجاب ، وتقول أنها علاقة بينها وبين الله نقول لها : إذا كانت تتذرع بالدين أن الحجاب فريضة، وليس في الفريضة حرية شخصية فإن أبت نقول لها :هل تعدى أثر خلعك للحجاب وسفورك على المجتمع والشباب ونال من أخلاقيات وقيم المجتمع، وهذا لاشك يدفع بالشباب إلى الشهوات، فمن حق المجتمع أن يحاسبك لفسادك ، وبالطبع سيعترض البعض على هذا ونقول لهم :( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚوَاللَّهُيَعْلَمُوَأَنتُمْلَاتَعْلَمُونَ) ( النور 19 ) ، فليس شرطًا أن تكون مذنبًا بأن تفعل الفاحشة بل ربما تغاضيك عنها وتركك لها يكون سببًا في نشرها، فأنت إن لم تعترض فقد ارتضيت وإن سكت فقد خنت الأمانة ، ولستُ هنا لأناقش قضية الحجاب ولكني أتحدث عن كل فعل يعزوه أصحابه إلى الحريات الزائفة متسببين عن عمد تحت دعوى الحرية التعدي على حدود الله وظلم الآخرين وأكل أموال الناس والتسلط على رقاب الضعفاء ، فجزى الله خيرًا من قرأ فوعى.

مشاركة :