كان قد زار -منذ سنوات- إفريقيا، ومن سوء حظه أن لدغته ذبابة «التسي تسي» فتسببت له في غيبوبة عدة سنوات، وشاءت القدرة الإلهية أن يفيق من غيبوبته. اختلطت أحاسيس فرحة أُسرته مع مشاعر عدم التصديق، لاحظ تغير وجهه في المرآة، ولم يلحظ عليهم الكثير.. سوى عَرَض غريب لاحظه على سلوكهم وهم يتحدثون معه أو مع بعضهم، فما أن يجتمع البعض من الأصدقاء أو أفراد الأسرة حتى يسند كل منهم جهازًا يخرجه من جيبه، أو من حقيبتها، إلى أقرب نقطة في المنضدة التي أمامه، وما أن يطمئن لذلك، يبدأ الكل تبادل أطراف الحديث، وما هي إلا لحظات فإذا هم «ناكسو» رؤوسهم على هذه الأجهزة، لكز من بجانبه وسأله: «ما بالهم ينظرون لذلك الجهاز كل فترة؟! وما هو ذلك الرقم السري الذي يقوله صاحب الدار وبات من أدبيات الضيافة المعاصرة؟». لم تكن بالفترة البسيطة التي قضاها العائد إلى الحياة لكي يستوعب دخول الهاتف المحمول «الذكي» وملحقاته؛ مما بات يُسمَّى «وسائل التواصل الاجتماعي» إلى الحياة الجديدة التي عاد إليها، ضاق ذرعًا وقرر السفر للخارج في جولة نقاهة. غاب في ربوع أوروبا وأميركا، وبعد أن عاد لم يشأ أن يصطدم بالمجتمع، فآثر أن يبدأ بأسرته ومن يُحب، ويخبرهم بأنه يحبهم، ولكن ما لاحظه عليهم من تغيّرات اجتماعية كثير وخطير، أسرّ إليهم معاتبًا، كيف لا ولقاءاتنا أصبحت تحصيل حاصل؟ كيف لا وقد أصبحنا نعيش في العالم الافتراضي أكثر من الواقعي؟ وكيف أصبحنا لا ننظر في عيون أبنائنا ونحن معهم أجساد بلا أرواح؟ كيف أن الواحد منّا يستيقظ فزعًا في الليل فيرى وجه زوجته مضيئًا لا من نور الإيمان.. بل من هاتفها «الغبي»!، حتى من قاموا باختراع هذه الوسائل جعلوا ضوابط لها، فهي لا تستخدم في أماكن العمل، ومن اللياقة خفض صوتها في الأماكن العامة المغلقة، وإبقائها صامتة في صالونات الشاي في فندق «لانكستر» لندن على سبيل المثال، وتوجد مقطورة مخصصة في بعض القطارات مكتوب عليها «Quiet Zone» «منطقة هدوء»، شيء يبعث على احترام الآخرين وخصوصيتهم، يحث على التأمل والجلوس مع النفس. أما بالنسبة للاطلاع على الرسائل أثناء القيادة، فيُعدُّ أمرًا جللًا يعاقب عليه القانون، لما يُسبّبه من حوادث تحصد الأرواحٍ، بل وإن محكمة أميركية قضت بمشاركة الطرف المُرسِل للرسالة لقائد المركبة المتسببة في الحادث في الجريمة!، وهناك دراسات تشير إلى أن قائد المركبة الذي ينشغل بهاتفه أشد خطرًا من السائق المخمور! انتهى كلامه، فهمَّ أحد أفراد أسرته ليعترض عليه غاضبًا، فأمسكته بجانبي وقلت له: لا تلمه يا هذا.. فابن أخي رجل من الزمن الجميل. ghassan.hamid.omar@gmail.com
مشاركة :