في مقاله لـ DW عربية يجيب علاء الأسواني عن السؤال: "من الذي يسيء إلى سمعة مصر؟" كان شاعر النيل حافظ ابراهيم ( 1872 – 1932 ) بالاضافة إلى موهبته المتألقة صاحب مواقف وطنية عظيمة ضد الاحتلال البريطاني وقد كتب قصيدته الشهيرة "مصر تتحدث عن نفسها" التي غنتها كوكب الشرق أم كلثوم وفيها وصل إلى قمة التعبير الشعري اذ يقول: وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي وبناة الأهرام في سالف الدهر كفوني الكلام عند التحدي أنا تاج العلاء في مفرق الشرق ودراته فرائد عقدي إن مجدي في الأوليات عريق من له مثل أولياتي ومجدي أنا ان قدر الإله مماتي لاترى الشرق يرفع الرأس بعدي الذي لا يعرفه كثيرون ان حافظ ابراهيم له قصيدة أخرى يهاجم فيها مصر التي طالما مدحها. تستعمل كلمة "اليراع" في اللغة العربية بمعنى القلم أو ريشة الكتابة وهنا يقول حافظ ابراهيم مخاطبا مصر: حَطَمـتُ اليـراعَ فـلا تَعجَبـي وعِفـتُ الـبَيـانَ فـلا تَعتُبـي فما أنـتِ يا مصـرُ دارَ الأديـبِ ولا أنـتِ بـالـبَـلَـدِ الطَّيِّـبِ ويستمر الشاعر في هجاء بلاده ثم ينتقل الى هجاء المصريين أنفسهم ويستعمل بيت أبي الطيب المتنبي الشهير " وكم ذا بمصر من المضحكات ...لكنه ضحك كالبكا " فيقول حافظ ابراهيم : كم ذا بـمصرَ من المُضحِكـات كما قـال فيهـا أبـو الطَّيِّـبِ أمُـورٌ تَـمُـرُّ وعَيـشٌ يُـمِـرّ ونـحن مـن اللَّهْـوِ فِـي مَلعَبِ وشعـبٌ يَفِـرُّ مـن الصالحـاتِ فِـرارَ السَّليـمِ مـن الأجـرَبِ ويبين حافظ ابراهيم في هجائيته كيف يضيع الحق بين المصريين فيقول فيا أمّـةً ضـاقَ عـن وَصفِـها جَنـانٌ الـمُفَـوَّهِ والأخـطَـبِ تَضـيـعُ الـحقيقـةُ مـا بَينَنـا ويَصلـى البَـريءُ مـع المذنِـبِ ويُهضَـمُ فينـا الإمـامُ الحَكيـم ويُكـرَمُ فينـا الجَهُـولُ الغبـي لانعرف الأسباب التي دفعت حافظ ابراهيم إلى كتابة هذه الهجائية وان كان من السهل توقعها فقد كان حافظ فنانا رقيق الاحساس سريع التأذي ولعله عانى مثل أصحاب المواهب الكبيرة في بلادنا من كيد الصغار وحسد الأقران ودسائسهم وربما استبد به الغضب فألهمه هذه القصيدة التي لايمكن انكار جمالها الفنى برغم مرارتها وقسوتها.. المهم هنا ان حافظ ابراهيم قد نشر هجائيته في العشرينيات من القرن الماضي فلم يؤاخذه أحد ولم يتهمه أحد بالخيانة ولا بالاساءة لسمعة مصر إلى آخر هذه الاتهامات الفارغة التي تستعملها السلطة المصرية هذه الأيام لحبس الفنانين والأدباء. منذ مائة عام برغم الاحتلال البريطاني كان مفهوم الفن في مصر أوضح بكثير مما هو الآن. كان المصريون آنذاك يناضلون من أجل تحقيق هدفين: الاستقلال والدستور وكانوا يحلمون بدولة علمانية ديمقراطية يتساوى فيها المواطنون جميعا أمام القانون.كان ذلك قبل سيطرة العسكريين على حكم مصر عام 1952 ودخولهم في دائرة متكررة من الصراعات والتحالفات مع الاخوان المسلمين. الاخوان والعسكريون اذا وصلوا إلى السلطة تحولوا إلى وجهين لعملة واحدة. انهم فاشيون بمعنى أن لديهم حقيقة واحدة يفرضونها على الجميع وينكلون بكل من يعترض عليها. لا يمكن للفاشية أن تفهم ان فنانا كبيرا مثل حافظ ابراهيم قد يهجو بلاده بهذه القسوة ليس لأنه يكرهها أو يريد الاساءة اليها وانما لأنه يحبها جدا ويتمنى لو تتخلص من كل الأخطاء والعيوب لتصبح عظيمة بحق. الفاشية لاتفهم أن مهمة الفنان هو ان ينتقد العيوب ويقدم نماذج من البؤساء والمطحونين والمهمشين ليبرز معاناتهم ويدافع عن انسانيتهم المهدرة. سئل الكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي مرة: - لماذا تكتب دائما عن البؤساء ولا تكتب عن السعداء أبدا؟ فأجاب قائلا: - لأن السعداء متشابهون ومملون ولا يحتاجون لمن يكتب عنهم. الاسلاميون يريدون فنا اسلاميا يبرز شجاعة الاسلاميين وعظمتهم والعسكريون يريدون فنا حماسيا يبرز البطولات والتضحيات وبالطبع أى عمل فني بهذه المقاييس سيكون دعائيا فارغا بلا أى قيمة فنية. الفن مثل الحب يجب ان يكون تلقائيا وصادقا. ان مفهوم الوطنية في مصر الآن زائف وكذاب. بعد سيطرة السيسي على حكم مصر كتبت في جريدة نيويورك تايمز عن الاعتقالات التي طالت آلاف المعارضين الأبرياء فاستضافنى مذيع شهير في برنامجه التليفزيوني وسألني: - لماذا تكتب عن اعتقال المعارضين في الصحافة الاجنبية ..؟ أليس في ذلك اساءة لسمعة مصر؟ أجبته قائلا: - الذى يسيء لسمعة مصر هو اعتقال المعارضين وليس الدفاع عنهم بعد ذلك بأسابيع قليلة تم منعى نهائيا من الظهور في التليفزيون والكتابة في الصحف المصرية. ان سمعة نظام السيسي ليست سمعة مصر كما أنه لا يمكن ممارسة الوطنية خارج الانسانية. حب الوطن لايبرر السكوت على جرائم النظام وانما يدفعنا الى مقاومتها. في الدول الديمقراطية يعتبر كشف جرائم النظام عملا وطنيا عظيما. الصحفيون الأميركيون الذين كشفوا تجسس رئيس أمريكا على خصومه السياسيين في ووترغيت أو الذين فضحوا جرائم الجنود الأميركيين في العراق حصلوا على جوائز للصحافة ونالوا اجترام الشعب. الوطنية الحقيقية تجعلك تدافع عن حقوق الانسان أما اذا تسترت على جرائم النظام ولم تعترض عليها فلست وطنيا وانما شريك في الجرائم. نظام السيسي يدفع ملايين الدولارات لشركات دعاية غربية من أجل تحسين صورته أمام الرأي العام الغربي. هذه أموال مهدرة بلا طائل. الطريقة الوحيدة لتحسين صورة النظام هو رفع الظلم عن المصريين. في ظل الاعتقالات العشوائية والتعذيب وأحكام الاعدام الجماعية وحبس منافسي السيسي في الرئاسة وسيطرة المخابرات الكاملة على الاعلام يستحيل تحسين صورة النظام المصري.لا توجد طريقة لتجميل الوجه القبيح للديكتاتورية. الديمقراطية هي الحل draswany57@yahoo.com
مشاركة :