من الواضح أن نظام المراقبة القائم داخل المملكة المتحدة المعتمد على الكاميرات لعب دوراً مهماً في إيعاز محاولة تسميم جاسوس سابق في ساليسبري، مارس (آذار) الماضي، إلى الاستخبارات العسكرية الروسية. وبفضل الكاميرات، جرى تعقب تحركات الروسيَّين المشتبه فيهما بكثافة. إلا أن هذا النجاح الظاهري يكشف النقاب كذلك عن المشكلة الكبرى المرتبطة بنظام المراقبة العالمية: إذا ما جرى تعقب كل شخص، فإن هذا يعني أن أحداً لا تجري مراقبته. وبالتالي يصبح باستطاعة الكاميرات الاضطلاع بمهمتها فقط في وقت متأخر بعد وقوع الحادث على نحو يجعل من غير المحتمل إلقاء القبض على المجرمين رغم التعرف على هوياتهم.وتشير تقديرات إلى وجود 500.000 كاميرا مراقبة في مختلف أرجاء لندن، بمعدل واحدة لكل 16 شخصاً. (كما يعجّ الكثير من المدن الأميركية بالكاميرات رغم اعتراضات أنصار الخصوصية). وتبعاً لتقرير صدر هذا العام عن المراقبة بكاميرات الفيديو من «إفسيك غلوبال»، موقع إلكتروني بريطاني يغطي الصناعة الأمنية، فإن 16 في المائة فقط من الأنظمة الأمنية المعتمدة على كاميرات الفيديو للمراقبة تعتمد على تحليل باستخدام برامج ذكاء صناعي للمواد التي جرى تصويرها. وخلص التقرير إلى أن 74 في المائة من الأنظمة الأمنية تعتمد على الأقل على بعض الكاميرات «أنالوغ». وقد جرى تركيب ربع هذه الأنظمة منذ ستة أعوام أو أكثر.وتكشف دراسات أكاديمية أُجريت حول فاعلية المراقبة بالكاميرات أنها قلصت إمكانية وقوع حوادث سرقات للممتلكات، لكن ليس الجرائم العنيفة. وعادة ما تترك الكاميرات التأثير الأفضل إذا ما جرت متابعتها بنشاط وجاء رد فعل الشرطة سريعاً على الجرائم التي التقطتها الكاميرات. إلا أنه بغض النظر عن تأثيرها، تظل الحقيقة أن الكاميرات أخفقت في منع حدوث تفاقم هائل في معدلات الجرائم الخطيرة (حوادث إطلاق النار والقتل بالسكين والاغتصاب) التي جرى تسجيلها في لندن خلال الشهور الأخيرة. أما بالنسبة إلى الجرائم التافهة، فإنه من المفترض أن يكون لوجود الكاميرات عامل ردع نفسي، لكن مرتكبي هذه الجرائم لا بد أنهم قرأوا الصحف مثل الجميع والتي أشارت إلى أن شرطة العاصمة لندن عدّلت سياسة تقييمها للجرائم منذ فترة قريبة بحيث إذا كانت قيمة الضرر أقل عن 50 جنيهاً إسترلينياً (65 دولاراً)، فإن الشرطة لن تعبأ بإجراء تحقيق ولن تطارد مرتكبي الاعتداءات منخفضة المستوى، إذا تطلب الأمر متابعة تغطية كاميرات المراقبة لأكثر من 20 دقيقة.جدير بالذكر أن عدد الكاميرات الأمنية في برلين أقل منها في لندن بفارق كبير. وعام 2016 بلغ عدد الكاميرات 14.765 كاميرا، بمعدل واحدة لكل 235 من سكان المدينة. ومن المحتمل أن يكون هذا العدد قد زاد اليوم. جدير بالذكر أنه في أعقاب الهجوم الذي وقع على إحدى الأسواق في «الكريسماس» نهاية العام، نجح الجناة في الفرار من قبضة الشرطة ولم تكن هناك تغطية بكاميرات يمكن متابعتها. وعليه، دعت الحكومة الفيدرالية لتركيب مزيد من كاميرات المراقبة. ومع هذا، لا يزال الرفض قوياً لهذا المقترح، وقد تعهدت الأحزاب اليسارية الحاكمة في برلين العام الماضي بعدم توسيع نطاق المراقبة.ومع هذا، تبقى برلين مدينة أكثر أمناً من لندن. على سبيل المثال، شهدت لندن وقوع 32.869 حادث سرقة خلال العام المالي 2017-2018 (المنتهي في مارس)، بمعدل نحو 402 لكل 100.000 من السكان. بينما في برلين وقع 4.242 حادث سرقة خلال عام 2017 بمعدل نحو 115 لكل 100.000 من السكان.إلا أنه ينبغي التنويه هنا بأن التباين في معدلات الجريمة من الممكن أن يكون نتاجاً لعوامل أكبر بكثير من أساليب المراقبة بالمدينة. إلا أن استمرار هذا التباين والاتجاهين المتناقضين السائدين في المدينتين - الجريمة في تفاقم في لندن وتراجع في برلين - يكشف أن انتشار الكاميرات في كل مكان من غير المحتمل أن يكون الحل للمخاوف المتعلقة بالجرائم.وربما يرى البعض أنه من المريح مراقبة الوضع طول الوقت، بحيث تتفحص الشرطة الكاميرات فقط حال وقوع جريمة خطيرة مثل هجوم كيماوي أجنبي. أما باقي الأشخاص الذين تسجلهم الكاميرات فيظلون مجهولين ويسقطون من الذاكرة. إلا أن هذا الأمر يعتمد على ميل المراقب. على سبيل المثال، تعمل الصين على بناء نظام مراقبة شامل بالكاميرات يرمي لتغطية جميع «الأماكن العامة المحورية» والمواقع الصناعية بحلول عام 2020. ويوجد لدى الصين بالفعل 170 مليون كاميرا مراقبة معظمها أحدث من تلك الموجودة في المملكة المتحدة. ومن المنتظر أن تتولى الصين تركيب 400 مليون كاميرا أخرى. ومن الواضح من هذه الأرقام أن هذه الكاميرات لا ترمي إلى ردع النشالين، وإنما لمراقبة وتحليل البيانات المتعلقة بأي مواطن على أرض البلاد.* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
مشاركة :