تشاؤم أولبرايت... وحدود أزمتي الرأسمالية والديموقراطية

  • 9/16/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تحذر وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، في كتابها الصادر حديثاً تحت عنوان مثير «فاشيّة: تحذير»، من عودة الفاشية، ولكن من دون أن توضح كيف يمكن أن تعود، وهي التي ارتبطت بمرحلة تاريخية محددة. تفترض أولبرايت أن الفاشية ليست تجربة معزولة أو فريدة في التاريخ، بل قابلة للتجدد، وأنه ليس هناك ما يحول دون إعادة إنتاجها، وسقوط العالم في هوتها المظلمة مرة أخرى. ولكنها لم تحاول إثبات هذا الافتراض، بل اعتبرته ثابتاً، وانتقت من ظواهر تطرف قومي وشعبوي في أميركا وأوروبا اليوم ما يدعم الاعتقاد بأنها قريبة من تلك التي أنتجت الفاشية منذ صعود الدوتشي موسوليني إلى السلطة في إيطاليا في 1922. تجد أولبرايت في الصراعات العالمية، والتفاوت الاجتماعي المتزايد في معظم الدول، والاستقطاب المتنامي في المجتمعات، ما يشبه الأوضاع التي سادت أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى، وأتاحت لحركات وأحزاب فاشية الصعود إلى السلطة عبر التلاعب بمشاعر قطاعات من المجتمعات. لكنها تغفل اختلافات مهمة بين العالم الآن، وما كان عليه في ذلك الوقت. كان النظام الرأسمالي في أزمة خانقة بلغت ذروتها في الدول المهزومة في الحرب الأولى، فنجحت حركات وأحزاب فاشية في خلق حالة جمعت بين استغلال الغضب الوطني العارم من الإذلال الذي اقترن باستسلام هذه الدول، واستثمار الغضب الطبقي من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وكان وجه الفرادة التاريخية في تلك الظروف وجود حالتين تعبويتين يصعب جمعهما إلا على سبيل الاستثناء الذي لا يتكرر، لأن إحداهما (الوطنية أو القومية) شاملة، بينما الثانية (الطبقية) جزئية موجهة بالضرورة ضد مصالح قطاع ممن تشملهم الأولى. كما أن الحركات والأحزاب الفاشية بلورت أفكاراً محددة قد لا ترقى إلى مستوى المرجعية الفكرية المتكاملة، لكنها لم تكن مجرد شعارات عامة من النوع الذي ترفعه الحركات الشعبوية، والقومية المتطرفة، التي تُحذر أولبرايت منها. غير أن أكثر القلقين من صعود هذه الحركات الآن يتجنبون سؤالاً لا بد من إثارته، وهو: هل تهدف إلى إلغاء النظام الديموقراطي، وتعمل من أجل إقامة نظام شمولي يقوم على حزب أحادي؟ لا نجد، حتى الآن، في برامج هذه الحركات وخطاباتها ومواقفها ما يدل على رغبتها في إلغاء النظام الديموقراطي، بخلاف الأحزاب والحركات الفاشية السابقة، كما أنها لا تستطيع ذلك حتى إذا رغبت فيه. فأقصى ما في إمكانها هو التحايل على النظام الديموقراطي الذي يعني استمراره أن وجودها في السلطة موقّت. وهذا فرق مهم مثلاً بين ترامب وموسوليني اللذين تحاول أولبرايت في كتابها إثبات وجود جوامع بينهما، فتبدو كما لو أنها لا تعيش في الولايات المتحدة وتتابع كل يوم حملات ضد الرئيس الأميركي كانت كلمة واحدة من إحداها تكفي لإرسال قائلها أو كاتبها إلى المقصلة في إيطاليا الفاشية. لكن كتابها يفرض فتح نقاش جاد، نستهله هنا، حول حدود الأزمة الراهنة للنظام الرأسمالي العالمي، وأثرها في مستقبل الديموقراطية. ويتطلب هذا أن نلقي نظرة سريعة على حجج الفريقين اللذين يختلفان على طبيعة أزمة الرأسمالية التي بدأت في الثلاثينات وهل هي ممتدة حتى اليوم على نحو يُدعّم رؤية أولبرايت، أم إن الأزمتين اللتين نشبتا بعدها (في السبعينات ثم في نهاية العقد الماضي) منفصلتان عنها. هناك اتجاه في دراسة أزمة النظام الرأسمالي في العالم يذهب إلى أنها أزمة واحدة يُعاد إنتاجها في ظروف مختلفة، الأمر الذي يجعلها متراكمة. ويعتقد أنصار هذا الاتجاه أن أزمة الرأسمالية في السبعينات لم تنته، بل حجب الانتصار في الحرب الباردة الدولية مظاهرها موقتاً، وأن ما حدث في نهاية العقد الماضي (منذ 2008) يُمثل امتداداً لها. جوهر أطروحة هذا الاتجاه أن الرأسمالية استنفدت طاقاتها الاقتصادية، ولم تعد قادرة على تحقيق نسب نمو مرتفعة، أو الاستجابة للمطالب الاجتماعية، أو حتى المحافظة على ما حققته في هذا المجال. ويرون أن هذا يدفعها إلى التراجع عن الاعتماد على أشكال سياسية ذات طابع ديموقراطي، أو التضحية بما يسميه ولفغانغ ستريك «الغطاء الديموقراطي» الذي حافظت عليه لفترة طويلة. غير أن الأطروحة المضادة تبدأ بتفكيك فكرة امتداد الأزمة، وتسعى إلى إثبات أن أزمة الرأسمالية في كل مراحلها ظلت محصورة في منظوماتها المالية، ولم تصل إلى الاقتصاد الحقيقي، وأن هذه الأزمة تدل على وجود تناقضات كامنة داخل عالم الإنتاج (إنتاج السلع والخدمات)، وليس على احتدام أزمته. كما يقدمون استقرار نسبة الفائدة منذ منتصف الثمانينات، وحتى منتصف العقد الماضي، باعتباره دليلاً على أن الرأسمالية تجاوزت أزمة السبعينات، وأن الأزمة التي اندلعت في 2008 تُعد بالتالي جديدة، فضلاً عن اختلاف مصدرها الذي ارتبط بانفجار فقاعة عقارية في الولايات المتحدة. هناك أربع أزمات في تاريخ الرأسمالية، وليست أزمة ممتدة، وفق أطروحة هذا الاتجاه، وهي أزمات 1873 – 1896، والثلاثينات (الكساد الكبير)، والسبعينات، و2008. ويعترف أصحاب هذه الأطروحة بأن الأزمات الثلاث الأخيرة يجمعها ازدياد الأرباح المالية، وما يُطلق عليه رأس المال الوهمي، ولكنهم يلفتون الانتباه إلى الفروق الكبيرة بينها كماً أي في الحجم، ونوعاً أي في العوامل المُسببة، مع تأكيد أنها لا تُمثل خطراً على الاقتصاد الحقيقي. وما يعنينا في الخلاف بين الاتجاهين أن أولهما يرى أن أزمة الرأسمالية وصلت الآن إلى مرحلة تدفع إلى إعادة إنتاج الفاشية في صورة الحركات القومية المتطرفة والشعبوية الصاعدة في الغرب، بينما يضع الثاني تلك الأزمة في ما يعتبره حجمها الحقيقي، ويستبعد بالتالي أن تؤدي إلى تقويض الديموقراطية. وتفيد المقارنة بينهما بأن الأول مدفوع إما بخلفيات أيديولوجية أو مخاوف زائدة عن الحد، فيبالغ في تصور علاقة بين أزمة الرأسمالية وصعود الحركات القومية والفاشية، ويعتقد أن الديموقراطية تتداعى. أما الثاني فيبدو أكثر واقعية، ويفسر صعود تلك الحركات بعوامل لا تتعلق بحال النظام الرأسمالي، وهي ضعف أداء المؤسسات، وتدفق المهاجرين واللاجئين، وانتشار الإرهاب، ويستبعد تالياً تقويض النظام الديموقراطي، لكنه يعترف بالضعف الذي ينتابه في المرحلة الراهنة. وتبدو حجج الاتجاه الثاني أقوى، إذ لا نجد حتى اليوم ما يدل على أن الحركات القومية والشعبوية الصاعدة تهدف إلى الانقضاض على الديموقراطية، بل يوجد بينها من يعتقدون أن حملاتها على المؤسسات السياسية الحاكمة عقوداً طويلة يمكن أن تُحرر النظام الديموقراطي من أصفاد كبلته بها نخب محدودة العدد. ويأتي شعار «إعادة السلطة إلى الشعب» في سياق هذا الغضب على النخب السياسية وهيمنتها على المؤسسات، أكثر منه في إطار رفض الديموقراطية والسعي إلى القضاء عليها.

مشاركة :