ما زالت الرأسمالية تبهرني بالمدى الذي يمكن أن يبلغه الجشع في المجتمعات التي تعشعش فيها، وبالفوضى التي يمكن أن تثيرها، وبقوة التأثير التي تبثها، بل وبلغ من هول أثرها أن تفلسف لكل أنواع الانحراف، ليس في الاقتصاد وحسب، وليس في السياسة تاليًّا وحسب، وإنما حتى في النظم الإنسانية والاجتماعية، فتراها وقد أحكمت قبضتها على ما أسمته الحرية الشخصية لمن بلغ الثامنة عشر، فهو حر في جسده مثلًا يتصرف فيه كيف يشاء، بلا ضوابط من أدب أو خلق أو فضيلة، وأسموها «ليبرالية الجسد»، فنجحوا من خلالها مثلًا في تعرية المرأة و»تسليعها» مقابل شيء من المال، ليجنوا مقابله أضعافًا مضاعفة باسم الرأسمالية الخاوية إلاّ من عبادة الدرهم والدولار.وفي الاقتصاد تسود نظريات رأسمالية ثم تبيد، ليحل محلها ممارسات تؤكد استمرار انتصار نظرية الجشع البشري في مواجهة الخدمة التي كان شعارها من قبل «الزبون دائمًا على حق». وهذه إحدى الدراسات الحديثة المبنية على أرقام مجردة لا مجال فيها للاجتهاد أو المناورة. في عالم الطيران تقلص عرض مقعد الراكب بمعدل بوصة ونصف البوصة، أي بقرابة 4 سم، خلال عقد ونصف من الزمان (أي من بدايات القرن الحالي حتى يومنا هذا)، مما يعني في النهاية مزيدًا من الضيق والضنك لراكب الدرجة السياحية تحديدًا.وتعتزم خطوط (أمريكان) تقليص المسافة بين كل صفين بمقدار بوصة كاملة على طائراتها الجديدة من طراز بوينج 737 ماكس (التي ستتسلم 4 منها خلال هذا الخريف)، مما يعني إمكانية زيادة صف كامل لسعة الطائرة.ليس هناك حدود لمدى الجشع الذي يمكن أن تُصاب به الرأسمالية الحديثة طالما أنه يصب في مصلحة الأرصدة المنتفخة أصلًا، وطالما رفعت الحكومات المعنية يدها عن المراقبة والمحاسبة باعتبار أن الرأسمالية قادرة على تصحيح أوضاعها بما يتناسب مع عوامل العرض والطلب ومتطلبات السوق واحتياجات العميل. وهو كلام أكثره هراء برهنت عليه الأزمة المالية العالمية عام 2008م، والتي انطلقت شرارتها من عقر دار الرأسمالية المعاصرة، وانتشرت إلى معظم بقاع الأرض.إنه إبهار غير صالح.
مشاركة :