جاهد المتنيح الأنبا أرسانيوس ليقتني فضائل عدّة، منها الاتضاع والتسيح وطول الأناة والصمت وغيرها ومنها فضيلة "الغُلب".الغُلب الذي أقصده هنا ليس هو فقط الفقر الاختياري، فإني أتذكر أنني كثيرا ما كنت أمر عليه لأجده جالسا بمسكنة شديدة إلى منضدة متهالكة وكرسي بسيط، ليتناول طعاما أبسط مما سيتوقع القارئ، وهكذا يمكن أن يستقل أية سيارة، ويرتدى أبسط الثياب، ويقطن قلاية فقيرة جدًا. ولكن الذي قصدته بالأكثر هو المسالمة والغُلب هو الذي يُعرَف في المصطلحات الكتابية بـ"المسكنة بالروح"، فقد اختار أن ينهزم للآخرين (ينغلب لهم)، فإذا أصرّ شخص على موقفه معه اعتذر له، وإذا اختلف اثنان اعتذر عن كل منهما للآخر، وإذا اعتذر أب عن الصلاة في مكان ما عرض بصدق أن يصلي بدلًا منه، وإذا ضاق بشخص لم يطعه متماديًا في غِيِّه تركه لله يتعامل معه، وإذا تعرّض لضيقة عاد باللوم على نفسه واعتبر أن خطاياه هي السبب.إنه مبدأ تربوي وروحي يجب أن يتحلّى به القادة في مختلف المجالات.. يقضي هذا المبدأ ألّا يترك الكبير النقاش أو الخلاف بينه وبين من هو أصغر منه يتصعّد أو يتصاعد، لأنه متى حدث ذلك فإن الكبير هو الذي يخسر؛ ولكن ليظلّ الكبير كبيرًا، فإذا ما اتخذ خطوة للخلف فإنه يسحب فتيل الأزمة وهو يحتفظ بمكانته وهيبته لم يكسرها أحد. وفي الحروب والمصارعات نقرأ عمّا يُسمَّى بـ"التراجع التكتيكي أو الاستراتيجي"، وهو يأتي بغرض إعادة تنظيم الصفوف.هناك أمر آخر يجب الالتفات إليه، وقد أدركه المتنيح الأنبا أرسانيوس مبكرًا، وهو كيف يفكر الصغير بالكبير؟ فالصغير يتوقع دائمًا أن الكبير أكثر نُبلًا وأكثر احتمالًا وكرمًا وقدرة على الاستيعاب والغفران، ومن ثَمّ يجب أن يكون القائد دائمًا على هذا المستوى.وأتذكر أن المتنيح البابا شنودة ذكر أن بعض من القديسين خلصوا بالغُلب أو البساطة أو التظاهر بالسذاجة أو من خلال الغربة. ذكّرني هذا بفريق سُمِّي "الجهلاء لأجل الله، والفقراء لأجل الله"، وفي المقابل فقد أخزى الله الحكماء بالجهلاء، والعظماء بالمُزدرى وغير الموجود «واختارَ اللهُ أدنياءَ العالَمِ والمُزدَرَى وغَيرَ المَوْجودِ ليُبطِلَ المَوْجودَ» (1كورنثوس1: 28). وبينما كان يبدو الأنبا أرسانيوس أمام البعض أنه قليل الحيلة أو يبدو عاجزًا، كان في الواقع قادرًا أن يتخذ ما يناسب من مواقف، ولكنه يؤثر الصمت والاحتمال وأن يمرّر الموقف، مثلما قال المتنيح البابا شنودة عن بعض المواقف المؤلمة: "مرّرها بدلًا من أن تمرّرك".ومن التعبيرات التي كان يرددها في مثل هذه المواقف (لا بأس.. لا مانع.. أوافق..) ومن اللزمات التي ارتبطت به هي التنفيس عن ضيقه بشد لحيته أو حركة يده على رجله. ولئلّا يظن أحد أن ذلك هو نوع من التوتر أو العجز، كلّا! بل أنه اختار ذلك حتى يمر الأمر، ولئلّا يأتي القرار خاطئًا إذا جاء سريعًا، ولذلك فكثيرًا ما كان يسمع المشكلة ويظل شاخصًا ببصره دون تعليق، وله في ذلك مقولات معتادة أو صلوات قصيرة مفادها: لماذا حدث ذلك؟ ولماذا يتكرر؟ وماذا عساي أن أصنع؟ أو رحماك يا رب.في النهاية خرج الأنبا أرسانيوس غالبا، حائزا على احترام الجميع، مقدما مثالا في الوقار والصمت والمسالمة مع الجميع، متمسكا ببره في أشد الأوقات ظلمة ومرارة، فاستحق تلك المكافأة «طوبَى للمَساكينِ بالرّوحِ (الغلابة)، لأنَّ لهُمْ ملكوتَ السماواتِ» (متى5: 3).
مشاركة :