لم تعد الكتابة الروائية مجرد هواية يمارسها عباس بيضون على هامش إبداعه الشعري الذي جعله في مرتبة ريادية، لا سيما في حقل قصيدة النثر التي كان واحداً من الشعراء الذين طوروها وفتحوا لها آفاقاً جديدة وغير مألوفة سابقاً، في الشكل واللغة والموضوعات. أصبح عباس بيضون روائياً في ما تعني هذه الصفة من المام بأسرار الصنيع الروائي ووعي بمعاييره الحديثة، عطفاً على خوضه غمار اللغة السردية التي بدت متميزة لديه برحابتها وغنى معجمها وفضائها النثري. بعد روايات خمس أصدر عباس بيضون روايته السادسة «يومان لرلى» (دار الساقي)، وفيها يواصل مشروعه الروائي المفتوح على إمكانات السرد والكتابة النثرية. هنا حوار معه. > من يقرأ روايتك الجديدة يدرك أنها تنتمي إلى السرد الحديث الذي جعل من الفن الروائي نصاً متحرراً من أسر المعايير الثابتة. إنها رواية لا تملك بنية مغلقة بل بنية مفتوحة على ما يسمى أقصى السرد! كيف تقرأ مقاربتك لهذا الفن السردي؟ - لم أفكر في أي خطة سردية حين باشرت كتابة الرواية بل لم أكتبها في الأساس كرواية، كتبت في الفصل الأول «شهران لرلى» تأملاتي التي كنت غارقاً فيها بعد خروجي من حادث مميت ألزمني المستشفى شهراً والقعود في السرير شهراً آخر. بقيت وقتاً على ذلك الخط الرفيع بين الموت والحياة. كنت إزاء نفسي ميتاً حياً، ابتعدت عن كتابة هذا الحادث فقد حسبت أن الرثاء لنفسي استغلال غير مناسب للكتابة. لكن هذا ألحّ عليّ حتى وجدتني أكتب الجملة الأولى وأتابعها بسلاسة غير معتادة لي. لم أشأ أن أغرق في ذلك الحادث، فضلت الدوران حوله، شجعني ذلك على استنزاف واحد من محاور حياتي «الحياة والموت»، الأمر الذي جعلني أنتقل إلى محورين آخرين هما الحب والعمل الحزبي. أظن أن ما فعلته هو استنزاف هذين المحورين. كانت عملية استنزاف لثالوث حياتي. عند ذلك فكرت بأنني عن غير قصد أؤسس لرواية وكان عليّ، بعد ذلك أن أتقصّد ذلك وأن أغشّي هذه المحاور بغشاء روائي. هذه المرة اشتغلت الرواية عن قصد، بل ذهبت إلى اختراع بحت لها. كان الفصلان الأخيران هما اللعبة الروائية الخالصة، أي الفانتازيا، لكن الفانتازيا جعلت للنص مدى روائياً أو وضعته تحت الرواية. ذلك كان في مجمله لعباً سردياً أو سرداً خالصاً. لا أريد أن أدافع عن روائية النص، ولا أريد أن ألزم أحداً بها. النص تجريب ونحن في ما نجرّب نخترع ونبني. لا أعرف ما هي حدود هذا البناء في «شهران لرلى» لكن للانتشار والبعثرة أيضاً شكلهما بل هما اشتغال ليكون هذا الشكل روائياً على نحو ما وليكون حاصله رواية. > تحمل روايتك اسم رلى لكننا لا نصادف رلى فيها كشخصية ذات ملامح وطباع، فهي تحضر حضوراً شبه طيفي في أول فصل ثم في آخر فصل. لماذا أطلقت اسم رلى على الرواية وجعلتها في كواليسها؟ - لا يكفي أن يكون عنوان الرواية «شهران لرلى» لتكون رلى الشخصية الرئيسة في نصّ ليس فيه شخصية رئيسة، سوى الراوي الذي يقدّم نفسه متفرقاً مقسوماً. لقد جاءني العنوان شهران لرلى كما جاءني كل النص، كان العنوان متفرقات النص الذي جاء كله متفرقات. لدى قراءة ما كتبت تراءى لي أن «شهران لرلى» هو كـ «أسطورة سيزيف» يصلح ليكون أسطورة النص. شهرا رلى هما كصخرة سيزيف حتميان في حياة كل إنسان. لقد ابتعدت عنهما لكنهما ما زالا أمامي كما هما أمام الجميع بحيث نجدهما جزءاً، بل خلاصة للا معنى الحياة. على هذا هما مدخل لنص لا يفعل سوى أن ينفي كل ما يعد ركناً للعيش والحياة. > تبدو رلى التي لم يبق لها سوى شهرين حافزاً على السرد وعلى مواجهة فكرة الموت، ما ساهم في جعل السرد إغراقاً في الكتابة التي تواجه نفسها؟ - النص سلبيّ، لقد كُتب بصيغة النفي. الحياة والحب والسياسة بل التاريخ تنبع من المكان نفسه الذي هو إنكار ومحو. الكتابة على هذا النحو عملية ارتداد وإلغاء طويلة. إنها تنتشر في فضاء شاغر، بل هي تنبني من الفوضى والبعثرة والتفرق. الجملة معنية فقط بأن تبدد موضوعها، معنية أيضاً بأن لا تصل إلى نتيجة، ويكون السير المتعثر هو خطتها الوحيدة. > في الفصول الأخرى ينفتح السرد بوضوح على زوايا السيرة الذاتية، سواء في استحضار أطياف نسائية أو أنثوية أو استحضار أجزاء من السيرة الحزبية أو السياسية. هل تصف الرواية بالسيرة الذاتية؟ - هل النص الذي يدور حول راو واحد مغفل الاسم سيرة ذاتية بحيث، لا يتردد أحد في أن يطلق على الراوي المغفل اسم الكاتب نفسه؟ أظن أن هذا الأمر واضح بحيث لا حاجة لا إلى الإقرار به لا إلى البحث عنه. يبدو النص من أوله إلى آخره راجعاً إلى شخص لا يتعيّن إلا بتسمية الكاتب، ولكن هل يجعل ذلك منه سيرة ذاتية؟ لا أظن أن استمداد النص من حياة الكاتب يكفي ليكون سيرة ذاتية. فأول شروط السيرة الذاتية هو أن تُكتب بهذا القصد، وأن يكون شاغلها هو تقديم بورتريه للكاتب، غاية كهذه، إن وجدت، تتحكم في شكل النص وبتسلسله ومكانه وزمانه. شكل النص كما يتبيّن من الأسئلة والأجوبة السابقة هو أبعد من أن يؤسس بورتريه وشكلاً منتظماً ونصبياً لكاتبه. لا أظن. إلا أن النص الذي كُتب بصيغة الأنا يعمّي على راويه ويزيحه ويهمّش دوره، بحيث أننا نفتقد بورتريه هذا الراوي وآثاره، وبالتالي سيرته في النص. يمكن للقارىء أن يتذكّر عدداً من شخصيات الرواية «الصاحب» مثلاً بينما هو لا يملك أي فكرة مماثلة عن الراوي. النص مستمد نعم من حياة الكاتب، لكن من أين؟ من حول هذه الحياة لا من صلبها. إنه مكتوب هكذا كسيرة ذاتية مضادة، كهامش للسيرة. لم أعتنِ إلا بالاستمداد من ذاكرتي وحياتي، لقد أعاناني في مواضيعي. ما وجدته فيهما وما استمددت منهما كان مثلي في الحياة والحب والسياسة. صحيح أنني بنيت عليهما، وصحيح أنني توسعت فيهما لكن إلى الدرجة التي تجاوزت فيها حدودهما وانتشرت حولهما وأحياناً خارجهما. لم أتصرف فيهما ولم أحوّل أو أغيّر، رأيتهما كما هما، لكن من الزاوية التي سبقت على الرؤية والعين التي رأت، وبالذات التي تذكّرت بعد عقود من السنين، وما رأته كان نظرة ثانية، وكان في أحيان كثيرة محاكمة وتأويلاً. لم أتصرف في ذكرياتي لكني عدت إليها بعد أن تعرضت لقراءات مختلفة، كما أنني لم أسع منها إلى تقديم نفسي وعرضها. لقد سعيت منذ البداية إلى أن أقول الحياة والحب والسياسة متكئاً إلى معرفتي لذلك، هذه المعرفة التي حصّلتها من حياتي ومن تجربتي لم أكن أنا في النص كنت راوية مغفلاً. > أحببت كثيراً الفصل الذي تتناول فيه سرداً وبشاعرية عالية تلك الوجوه النسائية من ماضيك. ألا تعتقد أن هذا الفصل يستحق أن يكون رواية بذاته؟ - يسرني أن تكون وجدت في الفصل الثاني الغرامي ما يصلح لرواية كاملة، والغريب أن رواية كهذه كتبت منذ عقود وحالت وما زالت تحول، دون نشرها، أسباب لا أجد داعياً لذكرها. إلا أنني مع ذلك أتساءل ألسنا نجد في الفصل التأملي والفصل السياسي أيضاً ما يصلح لرواية كاملة؟ لقد سبق أن أفردت للحياة السياسية في شكل خاص أكثر من رواي: «الشافيات» و «خريف البراءة». > في الفصل الذي تروي فيه سيرتك الحزبية تبدو أوديبياً في المعنى السياسي، وتعمد إلى فضح التباسات ذلك الماضي الذي أثّر فيك؟ - أظن أن الأوديبية أي قتل الأب هي من بواعث الأدب في جملته، ولست أجد للانقلاب على أنفسنا وعلى مواقفنا، الذي يحدث غير مرة في الحياة سبباً أكثر حسماً. لكن هذه الأوديبية التي تردّ الأشياء إلى منظور نفسي لا تكفي لمحاكمة المواقف والآراء. إن في فصل «الصاحب» في النص ما لا يكفيه التفسير الأوديبي، بل إنني أجد أن في إقبال مثقفي جيلي على العمل السياسي ما يكاد يكون بحثاً عن الأب بقدر ما يمكن أن يكون خروجاً منه وارتداداً عليه أوديبياً. في الفصل السياسي في الرواية أمور سياسية يحسن التوقف عندها، أمور سياسية وسوسيولوجية وثقافية تستحق أن تُسمّى وأن تراجَع، وخاصة في هذا الوقت الذي تدور فيه الأسئلة حول النُخب والجمهور والعمل السياسي. > هل يستطيع شاعر وروائي شخصاني مثلك أن يكون عضواً مرتبطاً بجماعة، بينما هو مغرق بالبحث عن الذات المفقودة؟ - لم يكن هذا حالي وحدي في ذلك الوقت. كان مثقفو زمني بل وجماهيره في حال من الاستغراق السياسي تشبه التعبّد. فالسياسة كانت دين تلك الحقبة، وجميعنا كنا نضع مثاليتنا وأشواقنا في غرض سياسي، وبالتالي في تنظيم أو حزب. لا نعرف مثقفاً من ذلك الوقت لم ينتم إلى عقيدة أو تيار أو حزب. واليوم ونحن في غضون الحروب الأهلية نتعجب من حالنا يومذاك وقد نصفها بنوع من السذاجة العامة. > سؤال أخير لماذا يلجأ شاعر في مرتبتك الريادية إلى الرواية؟ هل هناك ما يعجز الشعر عن قوله؟ - أشكرك لما وصفت به موقعي في الشعر، لكني مع ذلك أتعجّب من سؤالك أنت الذي كتبت في الرواية والسرد مع كونك شاعراً ومعروفاً كشاعر. لكن السؤال مع ذلك جائز، بل هو دارج. لا أملك جواباً إلا أنني أحسب أن في كل كاتب، أياً كان، طموحاً لكتابة الرواية، بل أن انزياح الشعراء إلى الرواية ومنهم أنت وأنا، طبيعي. أنا شاعر نثر وطالما حسبت أن انتسابي إلى النثر في الشعر ليس أمراً عابراً، فالنثر هو عامود كتابتي وشعرية النثر هي غرضي وفي شعري من مقومات النثر ما ليس في الشعر الخالص. قصيدة النثر ليست بديلاً من الشعر إنها نوع آخر من الكتابة متميّز عن الأنواع الأخرى ومنها الشعر. لا يدعوني إلى الرواية كونها أسهل أو أبسط أو أنها أوسع من الشعر، وأنها دارجة سائرة، فذلك كله لا يصنع رواية ولا يصنع روائياً. أنا في الدرجة الأولى قارىء رواية وكوني شاعر نثر يجعلني أجرب النثر وأعالجه فهو مادتي وموردي.
مشاركة :