الكتابة للطفل بين التقليد والتجريب

  • 4/10/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

نواجه مفهوماً شائعاً عن الطفل والكتابة الموجهة إليه، عبَّر عنه محمد عبد الحافظ ناصف في مقاله «السمكة الفضية... الكتابة بعقل طفل»، المنشور في جريدة «الحياة» يوم 20 آذار (مارس) 2017. وجاء في هذا المقال أن «من يود الكتابة للطفل عليه أن يكون بعقل طفل وقلبه وروحه»، كأن الطفل كائن مستقل عن الكبار، وعن محيطه الاجتماعي والثقافي والتعليمي. لذلك يعمل الأستاذ ناصف على تقطيع أوصال ذلك الطفل بالتشديد على تحديد سِنه، لتأتي الكتابة على مقاس تلك السِن وما تحتاج إليه من معلومات وقيم. نحن إذاً أمام خطاب يضع الأطفال في موضع «الجماعة النوعية»، ومن ثم فإن الكتابة لهم تقتصر حتماً على مواضيع محددة. هكذا يكون طفل ناصف في حاجة إلى توجيه وإرشاد في شكل مطلق، مع أن هناك كتابات للكبار صارت مخصصة للأطفال، ما يعني أن كل شيء نسبي ومتحول، ومثل تلك الشروط تخفي الطفل الواقعي الذي يعيش مع الكبار ويتعلم منهم ويعلمهم، مع أنهم ليسوا بالضرورة نماذج تحتذى، خصوصاً في منظومة القيم، ومنها قيمة الصدق مثلاً. فالصدق نسبي والكذب ضروري في مواقف يكون الصدق فيها أكثر ضرراً من الكذب، إذاً لا بد أن ننظر إلى الطفل نظرة نسبية لا مطلقة وأن نحدثه في كل المواضيع باحترام وندية كما قال دوستويفسكي ونيتشه اللذان يؤكدان أن الكبير هو من يتعلم من الطفل، لأن الطفل متحرر من الأفكار المسبقة وشبكتها الجامدة وقادر على الإبداع والتجدد. يريد ناصف تلقين الطفل مجموعة من القيم الجامدة التقليدية المطلقة لتصبه في قوالب الكبار وكأنهم قيمة عليا، وهم ليسوا كذلك، وحتى يكونوا كذلك حقاً يجب أن يتعلموا من الطفل وروحه الخلاقة، لكن ليس الطفل الخارجي فحسب وإنما الطفل في داخلهم أيضاً، الطفل المقموع الذي يتوق إلى التحرر والحب والتجدد والإبداع وعدم الخوف. ما هو أدب الطفل؟ الأدب واحدٌ رغم تباين أشكاله وجمهوره، فهو أحد دروب الجمال، والجمال قيمة إنسانية عليا بجوار الحق والخير، بحسب أفلاطون. فلئن كان الحق هو القانون، والخير هو الاقتصاد والمنافع المادية، فالجمال هو الذوق، وهو يُعنى باستثارة أحاسيسنا ومشاعرنا وملكاتنا النقدية وخيالنا الخلَّاق... هو يربينا جمالياً، وهو عند الطفل –كما عند الكبار– أحد دروب اللعب والاكتشاف وإفراغ الطاقة الزائدة والتجدد والابتكار والانفتاح على العالم والتأثير فيه. وأدب الطفل كأدب الكبار يجمع بين الأرض والسماء والفانين والخالدين، بحسب الفيلسوف الألماني هايدغر. وهناك هانز كريستيان أندرسن، أديب الأطفال الذي قدم أعمالاً تبلغ من العمق والجمال ما جعلها خالدة خلود أدب الكبار، كما اعترف بذلك كتّاب كبار، منهم الروسي ليف تولوستوي. فقصة «الملك العاري»، مثلاً تنفتح على عالم السلطة، فتعريه وتكشفه بروح الطفل اللاعبة العميقة. وكذلك رواية «الأمير الصغير» للفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، التي تشكل عرضاً لعالم الإنسان بعين طفل وروحه المتوثبة. ولا ننسى حكايات «كليلة ودمنة» التي ارتحلت من عالم الملوك الكبار لتكون لبنة أساسية في عالم الأطفال الرحب، معلنة بذلك تماهي الحدود الجمالية بين الكبار والصغار. وها هو فيدور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي، سيد الرواية العالمية يقول إنه يكلم الأطفال في كل همومه الفكرية الفلسفية العميقة من دون أن يخفي شيئاً عنهم، لكنه يستخدم لغة الحس أكثر من اللغة المجردة وهم يفهمونه مثل الكبار، إن لم يكن أكثر. ليست الطفولة هي تلك المرحلة العمرية التي تبدأ مع الولادة وتنتهي عند البلوغ، أي أنها ليست مرحلة أولى يتجاوزها الإنسان إلى الأبد وبلا رجعة، وإنما هي مرحلة أولى وأخيرة يصبو إليها الإنسان ويجهد للارتقاء إليها ليتحرر بها وفيها من موت الكبار. فالإنسان عندما يفارق طفولته الأولى صوب النضج والانخراط في مجتمع الكبار يتكشف له هذا العالم: شبكة ضخمة صارمة وجامدة من المحرمات الأخلاقية والقانونية والعرفية تجبره على الانصياع لها، فهي لا تزيد على كونها أوامر ينبغي أن يطيعها ويستجيب لها من دون تفكير ويتبعها من دون نقد، فيتعطل عقله ويتوقف وينام ويفارقه الإلهام والإبداع وتتكلس روحه ويموت الطفل داخله، فيصير إنساناً آلياً يحركه برنامج موضوع له من دون مشاركة منه، ويفعل كل شيء وفق «كتالوغ» معد سلفاً له ولغيره. لذا كان النضج الحق هو استيقاظ الطفل داخل الرجل، لتنطلق قدراته المعطلة، فينقد وينقض تلك الشبكة الخانقة وتتنفس ملكاته الإبداعية وتنمو وتزدهر ويصير العالم مجالاً للعب الخلَّاق الجميل المرح الباسم، ما يجعل الإنسان فنان حياة قادراً على مساعدة الآخرين والأخذ بأيديهم إلى البهجة. ولقد طرح أدورنو، فيلسوف المدرسة النقدية الألمانية أثناء الحرب العالمية، ثقافة اللعب لإنقاذ الإنسان من التنميط والجمود والبعد الواحد الذي تفرضه الثقافة الرأسمالية الاستهلاكية. إن الطفل في مرحلته الأولى يكون بعيداً من الشبكة الاجتماعية الجامدة، فيصنع عالمه ويعيش فيه ويسمي الأشياء كما تتراءى لخياله المبدع، لذا يكون مبتهجاً وسعيداً، وعندما ينحّي الإنسان الكبير تأثير تلك الشبكة عن عقله ويوقف تأثيرها يستطيع أن يعود إلى ذاته الفريدة الحقة ويجد في لعب الطفل النضج الحقيقي، فيصير مبدعاً ويضيف إلى المجتمع أعمالاً مبدعة. يقول نيتشه: «نضج الإنسانية يعني أننا اكتشفنا القيمة الكاملة للعب الطفل». أدب الطفل إذاً لا يهدف إلى محاكاة المجتمع الخارجي، ولا نقل معلومات وقيم وأخلاقيات من الشبكة الاجتماعية الرتيبة وغير الملهمة إلى أذهان الأطفال والكبار ليحرمهم مبكراً من طفولتهم ويشوه أرواحهم وعقولهم ويرغمهم على ثقافة العبيد القائمة على السمع والطاعة، من دون تفكير وتمحيص ونقد ونقض وإبداع ينمّي أرواحهم ومجتمعاتهم. إن أدب الطفل الجميل هو ذكاء البراءة والنمو الحر الدائم والانفتاح على عوالم شتى من البهجة. إنه تشريع متجدد أبداً للإنسان يفضي إلى التخلص من كل أشكال السلطة القمعية في المجتمع وفي النفس، تلك البنى القديمة الميتة المرعبة، وينطلق إلى آفاق من الحرية عير المحدودة ليعلّم الكبار شجاعة الحرية وقوتها الجسورة، وكيف ينضجون حقاً ويصيرون أطفالاً أبديين.

مشاركة :