الروايات تحرض على إعادة كتابة التاريخ

  • 9/22/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عمّان - تعاملت الرواية العربية منذ بداياتها مع التاريخ باعتباره رافدا إبداعيا تمتح منه وقائع جاهزة وتجارب مكتملة، وفي العقود الأخيرة عاد الروائيون العرب إلى التاريخ بحثا عن إجابات يطرحها واقع مفعم بالخيبات والهزائم، لكن الروائي المعاصر في تعامله مع التاريخ يختلف عن الرواد ومنهم جورجي زيدان، فهو يعي تماما مدى الاختلاف بين دوره كمبدع، وبين دور المؤرخ حتى وإن اعتمدا على نفس الوثائق وتناولا نفس الوقائع. وهو ما أحدث جدلا كبيرا خصوصا على مستوى النقد والتنظير مما أوجد مطالبات بأن يحل مصطلح “التخيل التاريخي” محل مصطلح “الرواية التاريخية”، من أجل دفع الكتابة السردية إلى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها. الناقدة والأكاديمية العراقية نادية هناوي من المنتمين إلى هذا الاتجاه، وبلورت رأيها في كتاب صدر مطلع هذا العام عن دار غيداء الأردنية، وعنوانه ”السرد القابض على التاريخ“، وتنشغل فصوله الثمانية بمفهوم التاريخ كمادة روائية يقصدها الأديب “ليحولها إلى مدونات نصية سردية، يستحضر فيها الواقعي كما يغلغل فيها التخييلي مستجمعا الوثائق ومستحثا الذاكرة ليلتقي الماضي بالحاضر على أرض واقع نصي”. وترى هناوي أن هدف الروائي من ذلك ليس استعادة الماضي، بل يكون في استجلاب التاريخ فرصة لالتقاط المخفي والمهمل أو المسكوت عنه مما تضمنه التاريخ، فتأتي الكتابة لتكشف عنه وعن المقموع والغائر فيه لكي تطلق قيوده وتعيد له حقيقة دوره. استجلاب التاريخ فرصة لالتقاط المخفي والمهمل أو المسكوت عنه استجلاب التاريخ فرصة لالتقاط المخفي والمهمل أو المسكوت عنه وهكذا تتواتر الفصول الثمانية متناولة علاقة التاريخ بالأدب، وكيف تخدم وسائل عمل المؤرخ مهمة الأديب في التوثيق للأحداث والحقب والسير واجتراح مصطلح رواية التاريخ والمكونات البنائية المحددة التي يمكنها أن تُنتج رواية تاريخ، وتتطرق إلى علاقة الرواية بالتاريخ من ناحية المنابت والتمثلات، والكيفية التي بها تتشظى الذاكرة ويتم الإيهام بالواقع. خصصت الناقدة الفصول الستة الأخيرة من الكتاب لدراسات تطبيقية، تناولت فيها نصوصا إبداعية انطلاقا من تلك المفاهيم، بينما ناقشت عبر أول فصلين نظريا مصطلح رواية التاريخ كصيغة سردية، وتسعى إلى فحص هذا المصطلح ومقارنته مع مفاهيم وأطروحات عربية وأجنبية مثل مقولات باشلار وبول ريكور وهايدن وايت. تتعامل رواية التاريخ مع الجسد كثقافة وكهامش، فوفقا للتوجهات ما بعد الحداثة تكون الكتابة الميتاخرافية التاريخية تعبيرا عن الجسد من خلال نسقين معرفيين مختلفين، أحدهما يعزل الجسد عن كل ما يقع خارجه، بينما الثاني يدمجه فيه ليغدو الجسد وكأنه سياج يحيط بالشخص، فيبدو وكأنه انعكاس لصعود الفردية كبنية اجتماعية، وفقا لهذا الطرح للناقدة ليندا هتشيون لا يصبح الجسد كيانا للذة، بل يصبح إشكالية تتجاذبها المتناقضات، فهو تحد ومقاومة، وهو موت وحياة. من هنا تنطلق هناوي في تعاملها مع رواية “أزمنة الدم” للروائي العراقي جهاد مجيد حيث تتماس المغامرة الفنية مع محكى التاريخ وتصادر وقائعية التاريخ الرسمي محرضة على التخييل، وبهذا الشكل تتضح أبعاد الأنواع الروائية (رواية تاريخية أو رواية التاريخ أو رواية ميتا سردية) . تميز الكاتبة بين الذاكرة التاريخية والذاكرة السردية، وتعرض على ما سماه بول ريكور “غائب التاريخ أو موت التاريخ”، حيث لا يستطيع التاريخ أن يقطع كل علاقته بالسرد دون أن يفقد طبيعته التاريخية، هذا التوجه النظري نحو إماتة التاريخ من أجل صنع تاريخ جديد هو عبارة عن تاريخ متخيل يسهم التاريخ نفسه في صنعه، وهو ما فعله العراقي حميد الربيعي في روايته “أحمر خانة”. وفي الفصل الأخير من كتاب نادية هناوي “هشاشة الذاكرة السردية بين إماتة التاريخ واستعادته في رواية أحمر حانة” تحاول تقديم رؤية جمالية للكيفية التي وظف بها الروائي حميد الربيعي التاريخ كبؤرة سردية تنتج تاريخا بديلا أو مختلقا، فالرواية عمدت إلى إظهار التضاد بين مثال يوتوبي لمدينة صنعها ابن الأثير في تاريخه، وبين مآل فانتازي انتهت إليه نفس المدينة، حيث يعود إخوة الكهف من غيابهم السرمدي ليوقظوا إدريس، ويطلعوه على حقيقة واقعه. وهكذا تتعارض مخزونات الذاكرة مع مرويات التاريخ، وتتداخل الأزمنة، فيسخر السارد من التاريخ الرسمي ويحاكمه مستحضرا ابن الأثير ليرى بنفسه ما انتهى إليه حال المدينة، فيكتب تاريخا آخر غير الذي اهتم بمراكز السلطة وأهمل المقموعين.

مشاركة :