يغوص الروائي السعودي مقبول العلوي في روايته “طيف الحلّاج” في تحليل وسرد الحياة المعقدة للحلاج هذا المتصوف، الذي يعتبر شخصية كثيرة المنعطفات، الدينية (العقائدية) والسياسية، والاجتماعية. وخلال السنوات الألف الماضية قيلت عن الرجل شتى التهم، والقصص، فهناك من اتَّهمه بأنه ادعى المهدويّة، والشرك، والمروق عن الدين، والتطرّف في التحلل من الشعائر الدينية. وهناك آخرون من مريديه وأتباعه، برّؤوه من كل تلك التّهم، ومنهم من لم يصدق واقعة صلبه، وقال عنه إنه رُفع إلى السماء. وكل مأساة الحلاج في الرواية حدثت بسبب زواجه من فتاة أراد شيخه أن يضيفها إلى زوجتين سابقتين له، ولكن شاءت الظروف أن يختار أبو الفتاة “الحلاج” زوجاً لابنته بدل الشيخ المزواج. فأرسل الشيخ الرسائل إلى “الخليفة” يعلمه فيها بظهور زنديق في البصرة -يعني الحلاج- يجمع الأتباع حوله للثورة على الدولة العباسية. “الناس موتى وأهل الحب أحياء” هذه المعرفة العميقة، التي جاءت على لسان الحلاّج، هي خلاصة فكر هذا الرجل، الذي صُلب قبل أكثر من ألف عام في بغداد من قبل العباسيين، بتهمة الزندقة. ولكن حكاياته ما تزال ملهمة ومثيرة للكتابة حولها أو الاستلهام منها. حلّاج القطن مسارد الرواية، التي صدرت مؤخراً عن دار الساقي، تبدأ من حلول روح “الحلّاج” في طالب الدكتوراه “نوري إبراهيم”، ولم يأت هذا التلبس مصادفة بل جاء عبر تهيئة نوري لرسالة الدكتوراه عن حياة هذا الصوفي. وبالرغم من المصائب التي جلبتها له هذه الرسالة، فهو بعد خمس وعشرين سنة من الآلام والمصاعب والتّهم بالردة عن الإسلام، وسحب شهادة الدكتوراه منه، خرج ليقول عن صاحبها في روايته على لسان بطلها “الحلاّج غيّرني. أنا ممتن له أشدّ الامتنان. علمني الحلاّج أن للحياة ‘قيمة عظمى’ إذا جرّدتها من عوالق الشهوات والامتلاك والأنانيّة. وغمرت الذين حولك بالحب الخالص”. استخدم الروائي في روايته تقنيات المرايا المتعددة الأشكال: المستوية، والمقعرة والمحدبة، والمتعددة الطبقات. وجعل المرايا تتقابل، لتنقل صورة البطل من عدة جهات، وبأشكال كثيرة، مستخدماً في ذلك تقنيات روائية، كالتداعي الحر، وتيار الوعي، والواقعية السحرية. لينقل للقارئ كوابيس البطل نوري بعد سحب شهادة الدكتوراه منه بمؤامرة خبيثة من ابن عمه وخصمه “د. فالح” بسبب زواج نوري من طليقته “حليمة” وتسببه بعد ذلك في طلاقه منها بإرسال صور له في شبابه، كان فيها مع بائعات هوى في جزيرة بالي بأوضاع غير محتشمة، مما جعله يصاب بكآبة حادة جعلت الطبيب النفسي يصف له المهدئات القوية. وسردت الرواية حياة حسين بن منصور الحلاج (858 ــ 922م) من خلال مخطوطة كتبها نوري، تناولته منذ ولادته في قرية “الطور” قرب البصرة من جد عربي وَفَدَ مع المجاهدين، الذين نشروا الإسلام في بلاد فارس. وكان يصاحب أباه حلاّج القطن إلى مربض القوافل في “البيضاء” حاملاً أكياس القطن المحلوج، ليقايضا به هناك بالحبوب والجلود والخرز الملوّن، وبعض المخطوطات القادمة من بغداد. وكان أبوه من المواظبين على قراءة المخطوطات، وعندما ينتهي من قراءتها يحملها ليهديها إلى الدارسين بـ”رباط الزهاد”، فأحب الطفل النظر إليهم، والاستماع إلى ما يحكونه لأبيه. ويرحل الأب إلى “واسط “بعد أن بارت أعماله، وبلغ الفقرُ عائلته، وهناك نال تعليماً بمدرسة القراء على يد الصريفيني، ولاحظ الشيخ سرعة تعلمه ونباهته. الروائي استخدم تقنيات المرايا المتعددة الأشكال: المستوية، والمقعرة والمحدبة لنقل صورة البطل من عدة جهات الروائي استخدم تقنيات المرايا المتعددة الأشكال: المستوية، والمقعرة والمحدبة لنقل صورة البطل من عدة جهات وبعد ست سنوات من مكوثه في واسط أتاه طيف أمره بالسفر إلى”تستر” لإكمال تعليمه، وفي طريقه إلى هناك مر بالبصرة وأهوارها، ورأى جماعات الزنج المدججين بالسلاح، الثائرين على العباسيين بما سمي بـ”ثورة الزنج”. وهذه تجربته الأولى مع السياسة، واتساع مداركه لمعرفة ظلم الحاكمين. وفي تستر يكمل تعليمه على يدي الشيخ “سهل التستري”، وبعد سنة تأتيه الأخبار من واسط بموت أبيه، وبعد ذلك بشهور قليلة بموت أمه، فيغدو وحيداً. وينهل الشاب من علم أستاذه في التصوف، ولكن تختل أمور الأمن في تستر بعد أن يدخل جيش الصفارين، وهم من أتباع قائد الزنج، وبدأوا بقتل الموالين للعباسيين، فكان أستاذه سهل التستري أولهم. فيقرر الرحيل إلى البصرة بالرغم من اضطراب أحوالها بسبب استيلاء الزنج عليها، وما إن وصل إلى البصرة حتى التحق بأبي عمرو المكي بالمربد، وفي البصرة لبس جبة الصوفية، وتعرف على الجنيد الصوفي القادم من بغداد. زنديق البصرة بعد سنتين ذهب الحلاج إلى مكة لأداء فريضة الحج، وفوق جبل بن قبيس تبدى له حمق الأحياء، وضياع أيام حياتهم في توافه الأمور. وأمضى سنة في مكة وعاد إلى البصرة، وتزوج ابنة الأقطع البصري، وهذا الزواج تسبب له في قطيعة مع أستاذه أبي عمرو المكي، وهذه الزيجة كانت شؤما عليه، بسبب قرب أبيها من قائد الزنج، وكان هذا سبباً في صلب الحلاج فيما بعد. في بغداد التقى بالجنيد، فنصحه بالعودة إلى البصرة، فقد نقلت الأخبار إلى الخليفة المعتضد عن ظهور زنديق في البصرة يجمع الأتباع حوله للقيام بثورة ضد العباسيين. وقد تولى شيخه السابق وخصمه بعث هذه الرسائل، واتّهام الحلاّج بالزندقه. فيعود إلى البصرة، ولا يمضي وقت طويل حتى يتمكن العباسيون من إجهاض ثورة الزنج، وأخذ العباسيون يبحثون عمن ناصرهم. فقرر الحلاّج السفر إلى مكة، وهناك بقي سنة، وعاد على أمل تحسن الأمور في البصرة، لكنه وجدها قد ساءت أكثر. وأن غريمه المكي ذهب إلى بغداد لينشر الادّعاءات الكاذبة عن زندقته في قصور الأمراء والحكام. ووجد زوجته التي كانت تنتظره، مختفية في بيت ابن أخيها، ولم يكن أمامه غير أن يصطحبها، ويهاجر في تستر، حيث يعيش أهل زوجته. أخذت فلسفته تتمحور حول مفهوم لا يتغير “المحبة والاحتواء للجميع، وهو العلاج الناجع لبني البشر، لكل عذابات أرواحهم وأجسادهم”. ووصلته الأخبار من بغداد تعلمه أن الأمور صارت أفضل، فيقرر السفر إلى بغداد، وهناك تعرف على أبي بكر الشبلي حاجب الخليفة، وبسبب الفتن والمؤامرات في القصور العباسية أوغر صدر المقتدر ضد الحلاج من قبل الحاسدين، كالقاضي محمد بن داود المالكي، والوزير حامد بن العباس، فيسجن الحلاج. ويقدم بعد ذلك للمحاكمة بدعوى شركه، ومروقه عن الدين، ويحكم بالصلب بعد محاكمة صورية، ويصلب، ويحرق جثمانه، ويُلقى برماده إلى دجلة. وتماهت حياة الحلاج مع نوري بطل الرواية حيث بتر عضوه الذكري من قبل أتباع “د. فالح”، ورمي في الصحراء ليواجه مصيره.
مشاركة :